إذا قمنا بتضخيم معركة جالديران علي أنها حرب بين الشيعة والسنة فإن ذلك في الحقيقة كذبة كبري. بشكل عام فإن حروب الصفويين و العثمانيين و العديد من الحروب الأخري التي تسمي حرباً بين الشيعة والسنّة في أدب التاريخ السياسي لا علاقة لها بالإختلافات الدينية في الكثير من الحالات إلا في طبقة رقيقة من الدين. فالكثير من الحكومات السنّية قد تحاربت فيما بينها و الكثير من الحكومات الشيعية قد تحاربت مع بعضها أيضاً، بينما كان بين العديد من الحكومات الشيعية و الحكومات السنية علاقة ودية.
الدكتور محمد حسين أميراردوش المعروف بكتاب «الوحدة الإسلامية من القديم حتي اليوم». كما أن آخر كتاب له في نفس هذا السياق أيضاً: «الوحدة الإسلامية، الصحوة الإسلامية، مفاهيم وتاريخ». لقد عمل علي التاريخ الإسلامي وبشكل محدد علي العلاقات بين المذاهب الإسلامية علي طول التاريخ، حيث يعتقد أنه وعلي عكس الإعتقاد السائد فإن تاريخ علاقات أتباع المذاهب كانت تقوم علي أساس الوحدة والتوافق أكثر من التفرقة والإنقسام. كما أن معظم الحروب التي وقعت علي مرّ التاريخ بين أتباع المذاهب المختلفة تحمل في الواقع طبيعة سياسية أكثر من الدينية. فيما يلي سنتابع القسم الثاني من الحوار الذي أجريناه معه.
-تلك كانت مصاديق صدر الإسلام لكن السؤال المطروح في أي وقت بدأت الحروب بين الشيعة و السنة أو الأفضل أن نقول إلي أي وقت لم تكن قد حدثت حرب باسم الشيعة والسنة؟
كما مرّ معنا فإنه في صدر الإسلام لم يكن الكثير من تلك الإنقسامات لها علاقة من أية زاوية بالإختلافات بين الشيعة و السنة. لكن فيما بعد عندما نتقدم أكثر في التاريخ نري أن بعض الحروب قد اشتهرت بحروب بين الشيعة والسنة و هذهa في الحقيقة طبقة دينية تم وضعها علي القضية و عندما نضع تلك الطبقة الدينية جانباً فإننا سنري أن الصراع كان علي السلطة بين عائلتين حاكمتين الأولي باسم الشيعة و الثانية باسم أهل السنة. مثل حروب الصفويين و العثمانيين المشهورة التي تسمي أحياناً باسم حروب الشيعة والسنة. بينما نستطيع القول أنها لم تمتلك من الطابع الديني إلا طبقة دينية رقيقة من أجل إثارة الناس و تشجيع الجنود، و لا فرق بينها و بين الحروب الأخري بين الحكّام السنّة أو بين الحكّام الشيعة. فمثلاً هذا السلطان سليم يحارب الشاه اسماعيل و يستولي علي تبريز، كما حارب المماليك؛ المماليك الذين كانوا أهل سنّة و حتي أن آخر خليفة عباسي شكلي في القاهرة كان تحت حماية المماليك. يعني إذا أردنا أن ننظر بالتعبير السياسي اليوم فإن مركز ثقل و آخر ممثل للخلافة العباسية التي كانت تقدّم نفسها كداعم و مركز لأهل السنّة كان في القاهرة. الأكثر إثارة هو أن تبريز قد استسلمت دون إراقة دماء لكن القاهرة قد قدّمت خمسين ألف قتيل لتدخل في النهاية تحت حكم السلطان سليم. هذا في الوقت الذي كان كل من العثمانيين و المماليك من أهل السنة، إذا قمنا بتضخيم معركة جالديران علي أنها حرب بين الشيعة والسنة فإن ذلك في الحقيقة كذبة كبري. بشكل عام فإن حروب الصفويين و العثمانيين و العديد من الحروب الأخري التي تسمي حرباً بين الشيعة والسنّة في أدب التاريخ السياسي لا علاقة لها في الكثير من الحالات إلا في طبقة رقيقة من الدين بالإختلافات الدينية. فالكثير من الحكومات السنّية قد تحاربت فيما بينها و الكثير من الحكومات الشيعية قد تحاربت مع بعضها أيضاً، بينما كان بين العديد من الحكومات الشيعية و الحكومات السنية علاقة ودية.
-ما هي أهم أمثلة تلك العلاقات العدائية (بين الحكومات الشيعية فيما بينها و الحكومات السنّية فيما بينها) أو العلاقة الحسنه بين الحكومات الشيعية و السنية؟
علي سبيل المثال كان هناك علاقات حسنة بين الحكومة الصفوية والحكومة التيمورية و الحكومة العثمانية مع حكومة القره غولي التي كانت شيعة مغالية. بينما كان هناك علاقات متوترة للغاية بين الحكومة العثمانية مع حكومة آق قويونلو التي كانت سنية المذهب
بحيث أدت تلك العلاقات المتوترة إلي حرب بين طرجان أو أوتلق بلي بين حسن آق قويونلو والسلطان محمد الفاتح. أو الصفويون الذين كان لهم حرب طاحنة مع المشعشعيان الذين كانوا مثل الصفويين الأوائل شيعة غلاة ولكن بطريقة أخري. او حرب الصفويين مع حكومة آل كياي الشيعية. لكن للأسف لا يوجد أحد يسعي لجمع الوثائق من أجل إثبات مزاعمه التي تثير الإنقسام، فهم يقومون بتضخيم معركة جالديران التي كانت بين الشاه اسماعيل و السلطان سليم و يقدّموها علي أنها حرب بين الشيعة والسنة. لكنهم لا يشيرون إلي معركة الريدانية بين السلطان سليم و المماليك، يا قبل ذلك لا يشيرون إلي معركة طرجان بين أوزون حسن آق قويونلو و السلطان محمد الفاتح أو أمثلة أخري.
وبهذه الطريقة فإنني أؤكد في هذا المجال أولاً علي أن معظم هذه الحروب كانت حرب سلطة بين العائلات الحاكمة و قد أخذت في بعضها طبقة و ظاهراً دينياً، ثانياً أنه كان يجب أن نحتاط في نطاق المصطلحات والأسماء. الكثير من هذه الأسماء و المصطلحات قد تغيرت علي طول التاريخ كما أن مصاديقها قد تغيرت. علي سبيل المثال فإن الثورة التي أدت إلي سقوط حكومة بني أمية كانت تعتبر في البداية ثورة شيعية، يعني كان شعار الثورة نيل رضا أل الرسول(ص). والعباسيون أنفسهم في بداية ثورتهم لم يكونوا يعلنون اسم الإمام، يعني كانوا يوصلون مزاعم الإمامة و شرعية إمامتهم عن طريق مذهب الكيسانية الذي كان أحد مذاهب الشيعة إلي الإمام علي بن أبي طالب(ع). في الحقيقة كانت آمال المجتمع الإسلامي قاطبة في ذلك الزمان تأمل أن تكون الحكومة العباسية حكومة شيعية. بناءاً علي المصادر التاريخية فإن السفاح في أول خطبة له في الكوفة قد بشّر بأن حكومة آل محمد(ص) قد وصلت إلي الحكم. بهذه الطريقة يجب أن نتعامل باحتياط في اطلاق اسم الشيعة و السنة علي الحروب والمعارك. إنني أؤكد مجدداً أن الفروقات والإختلافات كانت دائماً موجودة في التاريخ الإسلامي إلاأن النفاق و الإنقسام بين أتباع مذهب الشيعة والسنة (بمعناها اليوم) التي هي حرب و صراع تشمل بالمناسبة قسماً قليلاً من تاريخ الإسلام. حتي في عصر بني أمية لدينا فترات كان فيها الشيعة وبقية المسلمين يعيشون حياة جيدة و هادئة للغاية مثل فترة حكومة عمر بن عبدالعزيز التي كانت فترة حاكم مثقف و متقي و متسامح. أو علاقات أئمة الشيعة مع أئمة أهل السنة مثل الإمام جعفر الصادق(ع) مع الإمام مالك بن أنس و الإمام أبو حنيفة و غيرهم. كل تلك العلاقات كانت ودية علي الرغم من أن الإمام مالك بن أنس كان يعلم أن وجهات نظره تختلف مع الإمام الصادق(ع) و كذلك الإمام الصادق(ع) كان لديه وجهات نظر مختلفة عن الإمام مالك بن أنس. لكن هذا الإختلاف لم يكن يؤدي أبداً إلي أن تصبح العلاقات بين الطرفين عدائية بل علي العكس معظم تلك العلاقات كانت ودية. حيث كانوا يخاطبون بعضهم بعبارات مليئة بالإحترام و المودة. بشكل مؤكد و علي سبيل المثال فإن العلاقات بين الإمام جعفر الصادق(ع) و الإمام مالك بن أنس ودية أكثر بكثير من علاقته بالكثير من علماء الشيعة والسنة في زماننا هذا، بل ودية أكثر من العلاقات بين قسم من علماء الشيعة فيما بينهم أو السنة فيما بينهم في زماننا هذا.
-بشكل عام منذ متي انتشر في التاريخ اسم الشيعة والسنة، يعني هناك مجموعة بصفات ما هي شيعية و أخري سنّية بهذه الصفات؟ و منذ متي بدأت هاتين المجموعتين تخاطبان بهذا الاسم؟
لا نستطيع أن نحدد تاريخاً معيناً، طبعاً و بناءاً علي اعتقادنا الديني فإنه منذ زمن الرسول(ص) نُقل اسم الشيعة في بعض الأحاديث عن الرسول(ص)، مثلاً: «يا علي انت و شيعتك هم الفائزون» و أمثال ذلك. كان أتباع معاوية في الظاهر يطلبون بثأر عثمان بن عفان، كما كانوا عثمانيين أو شيعة عثمان. كما أن الإمام الحسين(ع) في مشهد مؤلم من عاشوراء يصف عدوه بشيعة أبو سفيان. لكن بعنوان مذهب معين فإن له إطاره الديني الخاص به منذ سنوات طويلة. من هنا يعتبر الشيعة الإمامية أنفسهم جعفريين أيضاً، يعني أتباع مذهب الإمام جعفر الصادق(ع). بالتأكيد في بداية المرحلة التي تلت وفاة الرسول(ص) لم يكن هناك في إقامة الصلاة و الصيام و في المجموع معظم العبادات و المعاملات اختلاف يذكر بين الأشخاص الذين كانوا شيعة والأشخاص الذين لم يكونوا شيعة، لكن هذه الأسماء قد انتشرت بشكل تدريجي. مثلاً الأشخاص الذين كانوا يتبعون علي بن أبي طالب(ع) كانوا مشهورون باسم الشيعة- لكن ليس بالعنوان و الفهم الذي لدينا اليوم عن مذهب الشيعة- في المقابل كان هناك العثمانيون. والعثمانيون ليس بمعني الأشخاص الذين يتبعون عثمان بن عفان بل الذين يزعمون الإنتقام لدم عثمان. بذريعة الإنتقام لدم عثمان وقف فريقان في مواجهة بعضهم و هم العلويون و العثمانيون. بنظرة واحدة يمكن القول أن غالبية المجتمع كانوا أنصار العلويين كما أن العثمانيين و الذين قاموا مطالبين بدم عثمان كانوا أقلية و في النهاية كان الحكم لهم. كانت العلاقات بين المحدّثين و الزهاد و الأئمة والعلماء الكبار الذين يحظون باحترام أهل السنة متوترة مع معظم الخلفاء الأمويين والعباسيين. إذاً إن عملية تشكّل المذاهب كانت عملية مكونة من سلسلة من الأحداث السياسية، الإجتماعية، الثقافية و الإقتصادية و عندما كانت تلك الشروط و الظروف تتهيأ كان يقع أمر أو حادث حيث ينتج عن ذلك الحادث مذهب اعتقادي ثم بعد ذلك ينبثق عن ذلك المذهب الإعتقادي مذهب أو عدة مذاهب فقهية. فمثلاً حول خلافة رسول الإسلام(ص) كان هناك مجموعة من المسلمين تعتقد أن الولاية منصوصة و أن علي بن أبي طالب عليه السلام هو خليفة الرسول(ص) مباشرة. هذه كانت عملية قد أصبحت فيما بعد اعتقاداً ما لبث أن تحول بالتدريج في إطار مذهب اعتقادي ثم أظهر نفسه فيما بعد علي شكل مذهب فقهي. خلال تلك العملية تصادفنا حرب صفين و حادثة التحكيم. فمجموعة من المسلمين رفضت التحكيم و قاموا بمعارضة طرفي الصراع يعني علي بن أبي طالب(ع) و معاوية حيث حارباهما و أصبحوا خوارج. لكن يجب الإنتباه إلي أن الخوارج لم يوجدوا هكذا فجأة، يعني في نفس تلك اللحظة التي وقع الإتفاق علي التحكيم لم يخلق عدة آلاف شخص من الخوارج بل كان هناك سلسلة من الإستنتاجات و الخلفيات الفكرية و السياسية والإقتصادية و حادثة التحكيم كانت ذريعة و حجة لظهور الخوارج. كما أن الخوارج أو الحروريين أنفسهم قد تحولوا علي مر التاريخ إلي مذاهب مختلفة بحيث أن كل مذهب مؤلف من عدة فرق. فمثلاً هناك فرق شاسع بين مذاهب الخوارج المختلفة مثل الأزارقة والإباضية. أو في مذهب الشيعة هناك بين الشيعة المتمحورين حول الشريعة مثل الإمامية و الزيدية و تاركي الشريعة مثل الإسماعيلية والغلاة و هكذا بين الشيعة النصيين دو الإخباريين أو الشيعة العقليين أو الأصوليين. كما أن هناك بين أهل السنة اختلافات بين أتباع مدرسة الحديث و مدرسة العقلية علي هذا المنوال. في الحقيقة يمكننا القول أنه في القرن الأول و الثاني الهجري معظم الصراعات و الإختلافات الدينية كانت بين الخوارج و معارضيهم ثم ظهر بعد ذلك الخلاف بين المرجئة و خاصة الإفراطيون منهم و معارضيهم و بين القدرية و خاصة المتطرفين منهم مع معارضيهم. و فيما بعد بين مدرسة الحديث و مدرسة الإعتزال و حتي مدرسة الأشاعرة و الماتريدية و بين المعتزلة و الأشاعرة و غيرها. فأهل السنة لم يشكلوا أبداً كلية واحدة. والآن أيضا لا يشكلون ذلك. فمثلاً مدرسة الحديث في مقابل مدرسة العقليين فمنذ البداية كان بين هاتين المدرستين اختلافات جدية في استنتاجاتهم عن التعاليم الدينية. و فيما بعد أصبحت المذاهب الفقهية للإمام أبو حنيفة تمثّل المدرسة العقلية و الإمام أحمد بن حنبل مدرسة أهل الحديث أو النص و الإمام الشافعي أخذ مكانه بين هذين المكانين. مع أن الشيعة غالباً ما يعتبرون المعتزلة من اهل السنة- بسبب اعتقادهم بالخلافة مثل بقية أهل السنة مع هذا الإختلاف وهو أنهم كانوا يعتبرون أن الإمام علي عليه السلام هو الأفضل من أجل خلافة النبي مثل الزيدية-بينما أهل السنة أنفسهم لا يعتبرون المعتزلة من أهل السنة. حتي بين المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة حيث لم يحصل بينها بحمد الله أي صراع كان بين أتباع هذه المذاهب في الماضي البعيد انقسامات كثيرة كانت تنتهي بالعنف أيضاً. لكن هذا ليس بمعني الصراع بين المؤسسين و العلماء الكبار لتلك المذاهب بل بعد سنوات علي موت هؤلاء الأشخاص الذين ربّوا أتباع تلك المذاهب قام بعض أتباع تلك المذاهب عن جهل و تعصب أو لدوافع أخري مثل المصالح الإقتصادية و المكانة الإجتماعية بالوصول في النزاع إلي حد الحرب مع بعضهم. و النتيجة هي أن حصر الصراعات الدينية بين الشيعة والسنة هو أمر خاطيء بالأساس كما أن الحروب المشهورة التي أشير لها علي أنها حرب شيعية سنية معظمها كانت حروب سياسية لكن ببطانة دينية. برأيي إن من أشدّ مراحل الإختلاف تأزماً بين أتباع المذاهب الإسلامية هي المرحلة التي نمر بها الآن يعني ربما لم نشاهد علي مدي التاريخ اختلافات الشيعة والسنة بهذه الغلظة التي نشاهدها الآن.
-نظراً لكلام سعادتكم هل نستطيع أن نستنتج بشكل كلي هذه النتيجة و هي أن العلاقات الحسنة و العلاقات المتوترة بين الشيعة والسنة تتحدد دائماً لأسباب سياسية وإلا فإن العلاقات بين الشيعة والسنة كانت حسنة بشكل عام؟
أحد أهم العوامل هي نفس عامل القوة أو ما يعرف بلغة اليوم بالإختلافات السياسية. لكن إلي جانب هذا العامل الأساسي كان هناك عوامل أصغر مثل إلي أي درجة مستوي التحمّل، مستوي التعصب و تسامح المجتمع- التي تكون عادة تحت تأثير سيادة المجتمع، و كيف كانت هذه العلاقات مؤثرة. في المراحل التي كان المجتمع تحت تأثير النخب و الحاكمين المتسامحين و المثقفين والأكثر تحملاً لاحظنا أن المجتمع كان بعيداً عن التعصب كما أن الخلافات الدينية كانت تخبو بطريقة ما، و في الفترات التي يصبح فيها نخب المجتمع متعصبون و الحكام الذين يحكمون المجتمع جهلة فإن عكس ذلك يحدث. كذلك في هذه القضية لا ننسي دور المصالح الإقتصادية التي تُنسي عادة؛ بينما يكون أحياناً السبب الأساسي للصراعات الدينية هو هذه المصالح الإقتصادية. مثلاً شاهدنا في التاريخ في إيران قبل هجوم المغول أن هناك الكثير من الإختلافات في الكثير من المدن بين المذهبين الحنفي و الشافعي لدرجة أنهم كانوا يقومون أحياناً بتدمير بعض محلات المدن. حتي في بعض الأحيان كان أحد طرفي الصراع يتحالف مع العدو الأجنبي الكافر ضد الطرف الآخر. هذه الصراعات لم تكن بسبب الإختلاف علي الوضوء و إقامة الصلاة و بقية الأحكام الشرعية التي يختلفون فيها، بل كان موضوع المصالح الإقتصادية؛ مثلاً علي الأوقاف و الدخل الذي كان من الممكن أن يتعلق بمدارس إحدي المذاهب، لم يكن باستطاعتهم أن يقولوا أننا نتحارب فيما بيننا علي هذه الجهة من السوق لأي مذهب من المذهبين موقوفة. كان الصراع دينياً في الظاهر لكن في الباطن كانت حرباً اقتصادية. لكن الشيء الذي كان مهماً هنا و كان يحضر معه كل هذه الأدوار إلي الساحة و ينشطها هو دور السياسة و المنافسات السياسية بين الحكّام. لكن العامل الذي كان فعّال للغاية في العصر الجديد يعني في القرنين الأخيرين و خاصة في زمننا، بينما كان أثره في الماضي قليل للغاية هو دور الأجانب في إثارة الخلافات بين المسلمين. علي الرغم أنه في صدر الاسلام و الفترات الوسطي في الاسلام كانت تظهر أحياناً مؤشرات تدل علي دور الغرباء إلا أنها كانت في النهاية لا تتجاوز دور شخص مؤذي أو قوة صغيرة أو متوسطة تسعي للفتنة. لكن في الفترة الأخيرة تحولت إلي دور قوة ذات يد طولي و متعجرفة كما أننا نشاهد من حولنا إلي أي مدي لهم دور مؤثر في إثارة الإختلافات بين أتباع المذاهب.
-برأيك ما هو السبب في تفاقم الإختلافات بين الشيعة والسنة في الوقت الحالي لدرجة بلوغها حدّ التكفير؟ نظراً إلي أن جذور عقائد معظم المجموعات التكفيرية تصل إلي ابن تيميه، يمكن اعتبار عقائد ابن تيميه بعنوان السبب الرئيسي لتشكّل المجموعات التكفيرية؟
كان أعلام المذاهب دائماً يراعون في موضوع التكفير جانب الإحتياط. يجب فصل موضوع التكفير عن موضوع المجموعات التكفيرية. مثلا نُقل عن الإمام محمد الغزالي أنه إذا اعتبرت ألف شخص عن طريق الخطأ أنهم مسلمون فذلك أفضل من أن تقوم بتكفير مسلم واحد. أو أنه نُقل عن الشيخ محمد عبده مفكر أهل السنة المعاصر أنه إذا تكلم شخص بكلام و كان هذا الكلام بمائة معني تفوح منه رائحة الكفر و كان هذا الكلام مقبولاً نوعاً ما فمن الأفضل ترك المائة و الأخذ بالواحد. يعني باب صدور التكفير ضيق للغاية. هذا بينما جاء في إجماع جميع المذاهب الإسلامية أن المسلم الذي ينكر الله و رسالة النبي الأكرم(ص) و ضروريات الدين يصبح كافراً كما تجري عليه أحكام التكفير ، علي الرغم من أنه هناك اختلاف بين المذاهب علي نوع الأحكام. إن ابن تيميه يعرف باعتباره منظّر كبير لمدرسة الحديث (سلفي بتعبير اليوم) لكن أن نعتبر ابن تيميه إمام المجموعات التكفيرية فهو غلط برأيي و ظلم لابن تيميه و هو مطلب التكفيريين. ابن تيمه نفسه و علي الرغم من أنه كان يهاجم عقائد الشيعة كثيراً إلا أنه لم يكفّر أبداً الشيعة الإمامية و كان يعتقد أنه يوجد بين الشيعة الإمامية الكثير من العابدين و الزاهدين. لكن هذا الهجوم علي عقائد الشيعة الإمامية لديه مثله علي عقائد أهل الفلسفة، التصوف، المعتزلة، الأشاعرة و حتي المنظرين مثل الإمام محمد الغزالي. لكن لا يوجد أي دليل تاريخي علي أنه قام بقتل مجموعة بسبب تعلّقهم بتلك المدارس أو أنه أرسل مجموعة لقتلهم. لذلك فإن ابن تيميه ممثل تيار فكري بحيث يمكن تسميته ممثل لتيار النص المتشدد في الإسلام. فهو يعتقد أن كل ما وقع في فترة السلف الصالح يكفينا و نحن لسنا بحاجة إلي الإجتهاد و علم الأصول و الفلسفة والمنطق. فالنظام الفقهي سيتعرض للفوضي. و بدل أن يتصارع مع العلماء حول وجهة نظره تعرض للسجن عدة مرات و في النهاية يموت في السجن أيضاً. بأمر ممن وقع هذا الأمر؟ لقد تمت معاقبته في عصر المماليك الذين هم من أهل السنّة و بفتوي علماء أهل السنّة و بدستور حكّام أهل السنة و تم سجنه عدة مرات ليموت في النهاية في آخر سجن له. نعم الكثير من المجموعات التكفيرية و غير التكفيرية السلفية تحترمه و تعتبره قدوة لها. لكن المجموعات التكفيرية المتعصبة حيث أن مثالها المشهور اليوم هو تنظيم داعش لديهم ليس فقط قراءة متعصبة و متحجرة بل منحرفة و مبتدعة لبعض الآيات والأحاديث التي يرفضها إجماع الأمة. لذلك تقوم تلك المجموعه بالتكفير الجماعي. الفرق الواضح بين موضوع التكفير و المجموعات التكفيرية هو أن المذاهب الاسلامية لا تقوم بالتكفير الجماعي. الكثير من علماء الإسلام الكبار مثل سماحة الشيخ القرضاوي يقول لا تكفّروا الشخص بل قوموا بتكفير الرأي-كما أن الكثير من علماء الماضي أيضاً قد قالوا هذا الكلام مثل الغزالي- مثلاً أن تقول نظراً إلي أن إنكار الله هو جزء من العقائد الأساسية لفكر الماركسية وهذه المدرسة هي مدرسة كفر لكن لا تقل لأن زيد ماركسي فهو كافر، بل ضع هذا الإحتمال أن هذا زيد ظاهراً أو أنه مجبر علي إعلان نفسه علي أنه ماركسي. مثلاً الكثيرون من مسلمي دول الإتحاد السوفييتي كانوا مجبرين ليصبحوا أعضاء في الحزب الشيوعي و لكن في الحقيقة كانوا مسلمين و كانوا يقيمون صلاتهم بشكل مخفي. أو ربما هذا زيد قد تاب لربه قبل موته و أصبح مسلماً. لذلك يقولون لا تحددوا المصداق. لكنّ المجموعات التكفيرية لا تقوم فقط بتعيين المصداق و تكفير الأشخاص و لا النظرية بل إنهم يقوموا بالتكفير الجماعي حيث تم إبداع هذا الشيء أول مرة علي يد الخوارج لدرجة أن الأزارقة كانوا يكفّرون مجموعات الخوارج الأخري التي لا تتبعهم، مثل تنظيم داعش الآن الذي كان يكفّر جبهة النصرة و يقتل عناصرها قبل أن تصبح معه في جبهه واحدة. إنهم في الأساس و خلاف السّنة الإسلامية مثل آبائهم الخوارج يبحثون عن ذريعة من أجل التكفير.
-ما هو اقتراحك من أجل تحسين الوضع الحالي؟
إن مجموعات مثل داعش و النصرة في النهاية ممكن أن يقضي عليها بضغط عسكري لكن هل القضاء علي تلك المجموعة سيقضي علي هذا الفكر و الإعتقاد؟ أن نعتبر أن كل تلك القضايا هي خطة أعداء الإسلام و نريح بالنا فهذا عمل خاطيء. طبعاً كان لأعداء الإسلام دور كبير و مؤثر في ظهور و تربية و تكاثر هذه المجموعات إلا أنهم كانوا يصطادون في الماء العكر، حتي أن لدينا كحد أقصي أنهم هم من قاموا بتعكير ذلك الماء. ليكن، لكن في النهاية كان ماءاً و طيناً اختلطا ببعضهما ليتشكل بذلك الماء العكر. فليس هم لوحدهم من ساهموا في إيجاد ذلك الماء العكر. يجب دراسة جذور تشكل هذه المجموعات الإرهابية و ما هي تلك العوامل التي تخلق كل ذلك الدافع لدي مقاتل تكفيري ليتخلي عن حياته بسهولة و أن يذهب إلي صحراء العراق و الشام ليحارب العالم أجمع و أن يقتل تحت قصف القنابل و الرصاص أو يقتل عشرات الأشخاص. شخص واحد مجنون، اثنان مغامران، ثلاثة مريضون نفسيون، أربع أشخاص ليس لديهم خبز ليأكلوا و قد جاؤوا ليحصلوا علي بعض الدولارات، لكن هل مئات و آلاف الأشخاص الذين يلتحقون بداعش هم كذلك؟! يجب ذراسة هذا الموضوع الذي هو العامل الأساسي في جذب تلك المجموعات للشباب من أقصي أنحاء العالم و ما الذي حصل ليبتلوا بالتكفير و معركة الدم و النار. هذه الجذور يجب التعرّف عليها و تجفيفها كيلا تزول داعش و يحلّ مكانها عدة مجموعات تكفيرية أخري.
العامل الآخر الذي يساهم في إضعاف شوكة التكفيريين هو تعزيز عوامل التضامن في العالم الإسلامي كيلا تجد بهذه الطريقه مجموعات مثل داعش مجالاً للتنفس حتي. إن ذات التنظيمات المتطرفة تنمو في الأجواء المتطرفة الخالية من التسامح. إذا نشرنا في المجتمعات الاسلامية سعة الصدر و التسامح و رفعنا أيدينا عن تفضيل الذات و عدم اعتبار الآخر و إذا اهتمينا أكثر بتعاليم رسول الله (ص) و الأئمة الأطهار(ع) و الصحابة الكبار و أئمة المذاهب، و إذا تجنبنا الإساءة إلي معتقدات و مقدسات أتباع المذاهب الأخري. إذا تمّ احترام حقوق الأقليات الدينية في كل بلد من قبل الغالبية الدينية فإن أرضية تشكّل المجموعات التكفيرية ستزول بالتأكيد
المصدر: موقع الثورة الاسلامية للعتبه الرضوية المقدسة
ترجمة: د.كامل اسماعيل