بالإضافة الى المسائل السياسية, فقد قدم أهل البيت(ع) التعامل مع المسلمين و حفظ الوحدة الاسلامية على المسائل المذهبية الشيعية حتى فيما يتعلق بالمسائل العبادية و الاجتماعية والثقافية, و لم تكن لهم يد في الطائفية أبدا. لقد بلغنا عن أئمة أهل البيت(ع) روايات عديدة توصي بالمشاركة الواسعة في التجمعات العبادية للمسلمين, واحد من المصاديق البارزة لهذا الأمر يتمثل في توصية الأئمة(ع) لشيعتهم بالحضور في جماعة أهل السنة و أداء الصلاة معهم. حجة الاسلام مهدي مسائلي
مصلحة الاسلام مقدمة على جميع الأمور
على مدى التاريخ الاسلامي كان البعض يريدون دائما بث الطائفية ما بين المسلمين, بشكل تكون الأصالة فيه للمذهب: و عملا كانوا اما ينعزلون عن سائر المسلمين, أو أنهم و بواسطة عنصر التكفير يعتقدون بخروج سائر المسلمين عن الاسلام. و لكن متبني فكرة التشيع الأصيل كانوا يقدمون الاسلام على التشيع, و يعتقدون أن التشيع فرع من الاسلام. لأجل ذلك كانت مصلحة الاسلام و المسلمين في وجهة نظرهم مقدمة على كل الأمور, و لو كان اظهار واحدة من عقائدهم المذهبية و السعي الى تجسيد ذلك في داخل جماعة المسلمين يخل بوحدة الأمة الاسلامية, فهم و اقتداء بأئمتهم ما كانوا يفعلون ذلك أبدا.
من خلال هذا المشهد كذلك نستطيع أن نرى كلا من سكوت الامام علي(ع), صلح الامام الحسن(ع) و قبول الامام الرضا(ع) لولاية العهد: أعمالا في سياق حفظ وحدة و تكتل المسلمين. أمير المؤمنين(ع) نفسه قال في هذا المورد: * فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين, و سفك دمائهم, و الناس حديثو عهد بالإسلام, و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن, و يعتكه أقل خلف *(1).
يقول (ع) أيضا في الرسالة رقم 62 من نهج البلاغة: * فو الله ما كان يلقى في روعي, و لا يخطر ببالي, أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده (ص) عن أهل بيته, و لا أنهم منحوه عني من بعده. فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه, فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام, يدعون الى محق دين محمد(ص), فخشيت ان لم أنصر الاسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما, تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي انما هي متاع أيام قلائل, يزول منها ما كان, كما يزول السراب, أو كما يتقشع السحاب, فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق, و اطمأن الدين و تنهنه *.
أمير المؤمنين(ع) كان يساعد الخلفاء
نعم, ان حفظ الأمة الاسلامية من الأخطار و الحؤول دون استغلال العدو للاختلاف الموجود بين أفرادها مهم لدرجة أن أهل البيت(ع) تنازلوا عن الخلافة و عن حاكميتهم الظاهرية على الناس في سبيل ذلك, لكن ماذا حصل الآن حتى صار بعض الجهال من الشيعة يغضون الطرف عن هذه الحقائق, و بعنوان التحزب لأهل البيت(ع) يؤججون نار الفتن المذهبية و يساهمون في اضعاف الأمة الاسلامية؟
يجب أن يعلم هؤلاء أن أمير المؤمنين علي(ع) و حتى لا يهدد الأمة الاسلامية أي خطر: قد نصح و أشار على الخلفاء في مجموعة من الحروب مثل الحرب مع ايران و الروم, و فتح بيت المقدس. حتى أنه رعاية لمصلحة الاسلام و المسلمين طلب من الخليفة الثاني أن لا يعرض نفسه للخطر في تلك المعركة, و أشار عليه بالبقاء في المدينة و أن لا يقود جيش المسلمين(2). هذه هي السيرة القطعية لأهل البيت(ع) و مخالفتها تعد في الواقع مخالفة لأولئك العظماء. أيضا, يقول الامام الحسن(ع) بخصوص صلحه مع معاوية: * ان معاوية نازعني حقا هو لي فتركته لصلاح الأمة و حقن دمائها *(3).
التوصية بالتعامل الاجتماعي و الثقافي مع سائر المسلمين
طبعا, و بالإضافة الى المسائل السياسية, فقد قدم أهل البيت(ع) التعامل مع المسلمين و حفظ الوحدة الاسلامية على المسائل المذهبية الشيعية حتى فيما يتعلق بالمسائل العبادية و الاجتماعية والثقافية, و لم تكن لهم يد في الطائفية أبدا. لقد بلغنا عن أئمة أهل البيت(ع) روايات عديدة توصي بالمشاركة الواسعة في التجمعات العبادية للمسلمين, واحد من المصاديق البارزة لهذا الأمر يتمثل في توصية الأئمة(ع) لشيعتهم بالحضور في جماعة أهل السنة و أداء الصلاة معهم, و قد جمع صاحب كتاب * وسائل الشيعة * هذه الأحاديث و جعلها في باب مستقل(4).
ان الحضور و المشاركة في الشعائر السياسية العبادية في الحج: يعتبر أيضا من أبرز مظاهر وحدة و اتحاد المسلمين في سيرة و منهج أهل البيت(ع), حيث نلاحظ على مدى التاريخ بعد رسول الله(ص) أن أهل البيت(ع) و شيعتهم كانوا يؤدون شعيرة الحج مع أهل السنة, و قطعا أنه في بعض السنوات حدث الاختلاف حول تحديد اليوم التاسع من ذي الحجة, و مع ذلك فلم يبلغنا عن الأئمة(ع) مخالفة لعامة المسلمين بخصوص أداء أعمال ذلك اليوم بل كان أولئك العظماء و شيعتهم منسجمين دائما مع بقية المسلمين و يؤدون كل أعمال الحج معهم في زمان واحد(5). الشاهد على ذلك هو أن كلا من زرارة و حماد بن عيسى الذي حج خمسون مرة لم ينقلا و لو لمرة واحدة أن الامام(ع) خالف أمير الحج المعين من قبل الحكومة في تحديد يوم عيد الأضحى مثلا. كما دلت الأخبار و الأحداث التاريخية أن أولئك العظماء كانوا يشاركون بقية المسلمين في احياء الأعياد و المناسبات الدينية(6).
كذلك فيما يخص الساحة الاجتماعية: وصلنا كم هائل من توصيات أئمة الشيعة(ع) لشيعتهم بمجالسة و مخالطة و مصاحبة سائر المسلمين في جميع ميادين الحياة الدينية و الاجتماعية. تلك العلاقات التي لو تمت بأخلاق حسنة و أعمال صالحة تعتبر في حد ذاتها تبليغا مؤثرا للمذهب الشيعي الى سائر المسلمين.
في وسط ذلك كله كانت السيرة العملية للأئمة(ع) في التعامل مع أهل السنة قدوة ملائمة لبقية الشيعة, حيث يقول أحد أصحاب الامام الصادق(ع): سئلت الامام الصادق(ع) عن نوع التعامل المطلوب مع أقاربنا و خلطائنا الذين ليسوا من الشيعة؟
فكان معنى جواب الامام(ع) أن انظروا الى أئمتكم و اقتدوا بهم, فلتكن سيرتكم كما كانت سيرتهم: فو الله لقد كانوا يعودون المرضى من غير الشيعة و يحضرون جنائزهم, و كانوا يشهدون عليهم بالحق سواء نفعهم ذلك أو أضرهم و كانوا يرعون و يؤدون أماناتهم اليهم(7).
المدهش في الأمر أن الامام(ع) قال لأحد أصحابه في رواية أخرى و في اطار التأكيد على هذه المضامين العالية: * أتخافون أن نضلكم ؟ لا والله لا نضلكم أبدا *(8)
الزواج من أهل السنة في سيرة أهل البيت(ع)
زيادة على هذه الأخبار و الروايات التاريخية نستطيع القول أن أولئك العظام ما كانوا يرون مسألة الاختلاف المذهبي أصلا حاكما على سلوكهم حتى في الأمور المهمة مثل تشكيل الأسرة, و يظهر ذلك جليا من رد الامام الصادق(ع) على استدلال زرارة بخصوص عدم الزواج من امرأة سنية: فقد قال له فيما معناه : أن رسول الله(ص) قد تزوج منهم و ما قام به كان عملا يشبه عمل لوط(ع) و نوح(ع), و قد قال الله عز و جل في كتابه الكريم في شأن زوجتيهما : * كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين *(9)و(10).
من المسلمات أن بعض زوجات الأئمة(ع) لم يكن معتقدات بولايتهم, و بناء على ذلك جاء التأكيد على جواز الزواج من أهل السنة في رواية أخرى عن الصادق(ع) جوابا لشخص سأله قائلا: هل الزواج من أهل السنة و الصلاة معهم جائزين؟
فأجابه الامام(ع):* هذا أمر شديد ان يستطيعوا ذلك, قد أنكح رسول الله(ص) و صلى علي(ع) وراءهم *(11).
يتضح من خلال التمعن في نص هذه الرواية الشريفة أن الاقتناع بهذا الأمر كان صعبا حتى على المقربين من أصحاب أهل البيت(ع),فهم أنفسهم لم يكونوا قادرين على التخلص من الميول والتعصبات الطائفية, مثلما لم يستطع بعض الشيعة التحرر من تلك القيود في زماننا هذا(12).
حتى في ميدان التعامل العلمي: كان أهل السنة و علماؤهم يترددون على أهل البيت(ع) و يجالسونهم. كما كان كثير من تلامذة الأئمة(ع) و رواة أحاديثهم منتسبين الى الطائفة السنية, و لأجل ذلك نجد أهل السنة كانوا يعتبرون الأئمة(ع) دائما المنبع الحقيقي للعلم و الفضيلة و التقوى, رغم أنهم كانوا مطلعين على الاختلافات العقائدية فيما بينهم. ان اللقاءات المتعددة و الطويلة التي كانت تحصل بين الامام الصادق(ع) و بين كبار علماء المعتزلة مثل عمرو بن عبيد, واصل بن عطاء و حفص بن سالم من جهة, و بين فقهاء سنة مثل سفيان الثوري, مالك بن أنس, أبو حنيفة, يحي بن سعيد الأنصاري, ابن جريح, محمد بن اسحاق, شعبة بن الحجاج, أيوب السجستاني و.......... من جهة أخرى سوف تبقى شاهدا دائما على السلوك المعتدل لذلك الامام الهمام(13).
عاشوراء أيضا لم تكن مذهبية المحتوى
على كل حال ,يجب الاعتقاد أن لا مكان للطائفية في فكر التشيع الأصيل, و لو نلاحظ سيرة أهل البيت (ع) ملاحظة دقيقة فإننا سنرى أن ثورة و شهادة الامام الحسين(ع) كذلك لم تكن حدثا ذو محتوى مذهبي. الشاهد على هذا الكلام هو أن الذين دعاهم الامام الحسين(ع) الى نصرته على طول الطريق ما بين مكة و كربلاء, و امتنعوا عن تلبية ندائه سواء كان ذلك بعذر ام بدون عذر: لم يكونوا أتباع فكر أو مذهب واحد. كما أن أصحاب الامام الحسين(ع) في يوم عاشوراء لم يكونوا كذلك أيضا, الحقيقة هي أنه الى جانب شيعته الخلص كان هناك وهب المسيحي و زهير العثماني, حتى أنه من شدة اتساع مجال الالتحاق بالركب العاشورائي استطاع الحر بن يزيد الرياحي أن ينسحب من جيش يزيد و يستشهد في معسكر الحسين(ع) بعد لحظات من توبته فقط.
نرى أيضا أن الحسين(ع) أجاب مروان بن الحكم عند اصراره عليه بمبايعة يزيد بكل صرامة قائلا : * و على الاسلام السلام اذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد *(14) و هذا ما يدل على أنه(ع) كان ينظر الى مصلحة الأمة الاسلامية في ثورته قبل أي شيء آخر.
ملحق
1/ ابن أبي الحديد, شرح نهج البلاغة, ج1, ص308/ بحار الأنوار, ج 31, ص62.
2/ ابن أعثم الكوفي, الفتوح, ج2, ص290-295.
3/ بحار الأنوار, ج44, ص309.
4/ الحر العاملي, وسائل الشيعة, ج8, ص299- بابُ اسْتِحْبَابِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ مَنْ لَايُقْتَدَى بِهِ لِلتَّقِيَّةِ وَ الْقِيَامِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَه
الامام الخميني، الرسائل، ج2، ص196 5/
الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج4، ص317 و الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج10، ص133 6/
7/الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص636 ؛ علي بن الحسن بن الفضل الطبرسي، مشكاة الانوار في غرر الاخبار، ص123؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص6.(سند هذه الرواية صحيح : محمد بن يعقوب عن محمد بن يحي عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن معاوية بن وهب)
8/علي بن الحسن بن الفضل الطبرسي، مشكاة الانوار في غرر الاخبار، ص123و بحار الأنوار،ج85،ص119
9/سورة التحريم-10
10/محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج4,ص175.
11/أحمد بن عيسي الأشعري، النوادر، ص۱۲۹؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج8، ص301؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج100، ص377. سند هذه الرواية صحيح : أحمد بن محمد بن عيسي في نوادره عن عثمان بن عيسي عن سماعة.
12/علي آقانوري، أئمة الشيعة و الوحدة الاسلامية، ص189.
13/السيدعلي الحسيني، المداراة ما بين المذاهب، ص506؛ بحار الأنوار، ج47، ص27.
14/ اللهوف، ص 99 و بحارالأنوار، ج 1، ص 184