حمولة ...

حول مستقبل العالم الإسلامي، كان مالك بن نبي إضافة إلي اهتمامه بالتيارات الإصلاحية و الحداثية التي تلعب دوراً في تصوير وجه جديد للعالم الإسلامي فإنه قد اهتمّ بظاهرة انتقال مركز ثقل العالم الإسلامي من منطقة البحر الأبيض المتوسط إلي آسيا حيث كان يعتبر هذه الظاهرة سبباً لظهور نتائج نفسية، ثقافية، أخلاقية، اجتماعية وسياسية في العالم الإسلامي وحركته نحو المستقبل. فهو يعتقد أنه في جاوه وباكستان وجاكرتا هناك تفوق في جوانب الفكر والعمل علي جانب العلم التقليدي المغلق كما أن باستطاعة العالم الاسلامي إعادة بناء نفسه للوصول إلي القدرات المطلوبة و يتعلم طرق الحياة. من جهة أخري فإن المجتمع الإسلامي في جوار الهند وإلي جانب الأديان الإبراهيمية و البوذية سيحقق ثورة داخلية في جو روحاني ستكون نتيجتها حوار بين القلب و الفكر و هو الشيء الذي يحتاج إليه كثيراً «الإنسان بعد الموحدون» ولم يتم العثور عليه في سواحل البحر الأبيض المتوسط.

 

 

 

 
 

 

وُلد مالك بن نبي في عام 1905 في عائلة فقيرة في مدينة قسنطينة شرق الجزائر. أنهي دراسته الإبتدائية والمتوسطة في نفس المدينة ثم غادر إلي باريس من أجل متابعة دراسته العليا وفي عام 1935 تخرج من فرع الهندسة الكهربائية. في الوقت نفسه قام بدراسات واسعة في العلوم الإسلامية كما تتلمذ لفترة طويلة علي يد عبد الحميد بن باديس.

كان منذ البداية ينظر إلي التيورات المحيطة به بنظرة تحليلية، كما رأي أن السبب الأساسي لضعف و تخلف العالم الإسلامي هو قضية حضارة كما قام بتأليف كتب عديدة حول «مشاكل الحضارة».

في عام 1956م عاد بن نبي من فرنسا إلي القاهرة و بعد الإتصال بالكثير من الأساتذة والعلماء ولقائه جمال عبد الناصر حيث قام بترجمة كتبه باللغة العربية ثم قام بعد ذلك بإصدار كتبه باللغة العربية. سافر بن نبي إلي العديد من الدول العربية والإسلامية حيث كان تلامذة كثيرون من القاهرة ودمشق و لبنان والجزائر يستفيدون من أبحاثه و دروسه. في عام 1963 وبعد استقلال بلاده عاد من مصر إلي الجزائر حيث تم تعيينه مديراً عاماً للتعليم العالي. في عام 1967م قدم استقالته من منصبه و منذ ذلك الحين أنفق كل وقته للنشاط العلمي و إقامة جلسات البحث الفكري.

معظم أعمال بن نبي تم تأليفها باللغة الفرنسية ثم تمت ترجمتها إلي اللغة العربية. أشهر مترجمي كتبه هما شخصان من تلامذته هما عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي (الوصي العلمي و مشرف نشر و ترجمة أعمال بن نبي). قام عبدالصبور شاهين بترجمة سبعة أعمال لبن نبي إلي اللغة العربية حيث تم تجديد نشرها مرات عديدة في القاهرة ودمشق. تلك الكتب عبارة عن: شروط النهضة (بالتعاون مع عمر مسقاوي)؛ ميلاد المجتمع: شبكة العلاقات الإجتماعية؛ وجهة العالم الإسلامي (العنوان الآخر لترجمته العربية: نداء الإسلام، بقلم رمضان لاوند)؛ الفكرة الافريقيّة الآسيويّة في ضوء مؤتمر باندونج (الذي كتب بمناسبة إقامة مؤتمر الدول الأفريقية- الآسيوية في باندونغ الأندونيسية في عام 1955م)؛ مشكلة الثّقافة؛ المسلم في عالم الاقتصاد. [۱] [۲] [۳] الأعمال الأخري له عبارة عن: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة؛ إنتاج المستشرقين؛ بين الرشاد و التيه؛ الآفاق المستقبلية الجزائرية؛ تأملات؛ في مهبّ المعركة؛ دورالمسلم و رسالته؛ دعوة الاسلام؛ مذكَّرات شاهدالقرن ـ الطفل؛ مذكّرات شاهد القرن ـ الطالب؛ الاسلام و الديمقراطية و القضايا الكبري. [۴] [۵] من أعمال بن نبي هناك عملان تمت ترجمتهما إلي الفارسية هما: الظاهرة القرآنية بقلم حجتي كرماني، ومن النص الأصلي الفرنسي أيضاً بعنوان  القرآن ظاهرة مدهشة تمت ترجمته بقلم نسرين حكمي؛ ميلاد مجتمع: شبكة العلاقات الإجتماعية بقلم جواد صالحي.

إصلاح المجتمع غير ممكن عن طريق الحكومة والسياسة

إن أفكار بن نبي و نضاله العلمي قد وضعه في سياق العلماء الإصلاحيين مثل محمد رشيد رضا، محمد إقبال لاهوري وابن باديس. [۶] هو من أهم العلماء المسلمين الذين تناولوا مشكلات الحضارة و بما أن أفكاره كانت بشكل عميق تحت تأثير النظريات الجديدة في فلسفة الحضارة لذلك يجب اعتبار ابن خلدون أول استاذ و أكبر ملهم له. [۷] يعتقد بن نبي أن «جوهر مشكلة كل شعب تكمن في مشكلظ حضارته ولا يوجد أي شعب سيكون قادر علي فهم و حل المشكلة، إلا إذا قام بترقية أفكاره إلي مستوي التحولات البشرية الكبري و أن يدرك بشكل عميق أسباب ظهور و سقوط الحضارات».[۸] .

كان بن نبي مأخوذاً بالحركة الإصلاحية «جمعية العلماء المسلمين» في الجزائر بقيادة بن باديس وكان يري فيها خصائص تفتقدها حركة الشيخ محمد عبده الإصلاحية؛ لأن عبده كان يكتفي بالإصلاحات الكلامية البحتة، أما ابن باديس فقد كان يقبل برنامج عملي كامل بالإستناد إلي الآية الشريفة «اِنَّ اللّهَ لايُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّي يُغَيِّروُا ما بِأنْفُسِهِم» [۹]. علي هذا الأساس فإن «مفتاح حل المشكلة موجود في روح الأمة»؛ لذلك «إيجاد الحضارة هي ظاهرة اجتماعية تصبح ممكنة في الظروف الصحيحة مثل ظروف الظهور الأولي». في مثل هذه الحالة كان بن نبي ينتقد جمعية العلماء المسلمين الجزائرية و يتّهمها بالإنحراف عن البرنامج المعتمد، لأن تلك الجمعية كانت قد قبلت أن تذهب برفقة قافلة سياسية بتاريخ 1936 إلي باريس من أجل التفاوض مع الفرنسيين. حسب عقيدة بن نبي فإن إصلاح وضع المجتمع عن طريق السياسة والحكومة ليس ممكناً لأن الحكومة تتبع لظروف اجتماعية و المجتمع الذي تسود فيه روح «قبول المستعمر» ستكون مضطرة لامتلاك حكومة استعمارية. لذلك فإن الإستعمار ليس وليد أفعال السياسيين بل نتيجة رضا الشعب بالإستعمار. لهذا السبب فإن التحرر من الإستعمار يكون ممكناً فقط عن طريق تحرير النفس من ذل القبول بالإستعمار ؛ بحيث أن الإنسان و بسبب «التغير الداخلي» يصبح في ظروف بحيث أنه باحترامه لكرامته الإنسانية يقوم بوظائفه الإجتماعية ولا يرضي بالحكومة الإستعمارية [۱۰] [۱۱] [۱۲] من وجهة نظر مالك بن نبي فإن المشكلة الأساسية هنا أن «المجتمع الإسلامي» قد عاش لقرون طويلة «خارج التاريخ» و قد خسر حضارته و من هنا فإن «كل حضارة تقوم بخلق منتجاتها» لا يمكن امتلاك حضارة من خلال شراء و جمع منتجات الحضارة الأخري. إن الشيء الذي ينتج عن جمع أشياء الحضارات الأخري هو «شبه الحضارة» و ليست «الحضارة الحقيقية. [۱۳] [۱۴]

«عناصر الحضارة» ليست سوي «الفكر الديني»

من وجهة نظر مالك بن نبي فإن كل منتج حضاري يمكن الحصول عليه فقط من تركيب ثلاثة عوامل هي الإنسان و الأرض والوقت. يؤكد بن نبي أنه من أجل تركيب هذه العناصر الثلاثة فإن «مكون حضاري» سيكون ضرورياً كما أن التحليل التاريخي يظهر أن هذا المكون ليس شيئاً سوي «الفكر الديني». [۱۵] [۱۶] من جهة أخري فإن تركيب عناصر الحضارة والعامل الذي يجمع بينها يتبع منطق «حركة التاريخ»، لأن الحضارة تمتلك «حياة« أو علي حد قول ابن خلدون تمتلك «دورة»: تأتي مع «النهضة« إلي العالم ثم تنمو و تتطور حتي تصل إلي نقطة الأوج، ثم تأخد طريق الهبوط لتنتهي إلي «الأفول». علي الرغم من أن بن نبي يري أن هذه الدورة علي أنها فترة لا مفرّ منها، و علي عكس ابن خلدون فإنه غير فاقد للأمل من الحضارة التي فقدت تألقها، لأن الله قد وضع أسباب التقدم بين يديّ الإنسان. إن إحياء و إعادة تجديد الحضارة لا بدّ أن يكون قائماً علي المعرفة الكاملة لتاريخ تلك الحضارة و مراحل فترة الحضارة و الظروف الإجتماعية و النفسية للفرد والمجتمع في مراحل مختلفة.

حسب اعتقاد بن نبي فإنه في نظام دقيق ذو سمو أخلاقي يتم التحكم بشكل كامل في الغرائز والطباع الحيوانية و ردات فعل الشخص كما أن المجتمع سيكون تابعاً لشبكة قوية من العلاقات. في هذه المرحلة تكون «الغريزة» ساكتة كما أن جميع أفراد و مكونات المجتمع مثل «البنيان المرصوص» يتّبعون مع نداء الروح حركة صعود سريعة. من وجهة بن نبي فإن هذه المرحلة في تاريخ الحضارة الإسلامية تطابق الفترة الزمنية بين نزول الوحي في غار حراء حتي واقعة صفين في عام 38 ومع دخول معاوية معاوية إلي مسرح الأحداث فإن التوازن بين «الروح» و الزمن قد زال. [۱۷] [۱۸] [۱۹] فالمجتمع الذي تربي علي الفكر الديني يأخذ طريق التحوّل و مع توسّع شبكة علاقاته الداخلية فإنه يتناول توسّع «الفكر». في المرحلة الأخيرة من التوسّع تظهر مشاكل مادية و مستجدات جديدة كما تظهر نقطة عطف جديدة تعتبر بداية «مرحلة العقل». لكن هذا «العقل» لا يمتلك سيطرة «الروح» علي الغريزة، و من هنا فإن الغرائز تتحرر تدريجياً من القيود و بهذه النسبة تفقد «الروح» تأثيرها علي نفسها كما يمتنع المجتمع أيضاً عن تنظيم سلوك الأفراد و التحكم بالرغبات الشخصية كما تتساقط رويداً رويداً شبكة القيم الأخلاقية والإجتماعية. في هذه المرحلة تصل العلوم والفنون إلي الحد الأقصي من توسعها.  من وجهة نظر بن نبي فإن هذه المرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية تتطابق مع العصر الأموي وقسم هام من العصر العباسي حيث كانت نقطة الذروة فيه في عصر المأمون. يعتبر بن نبي أن هذه الفترة- بلا شك- انحراف كبير عن خط الحضارة الأصيل لأنه في هذه الفترة زال التوازن الموجود بين الروح و العقل كما بدأت تظهر مؤشرات علي تزلزل الروح و اقتراب أفول تلك الظاهرة. [۲۰] [۲۱] [۲۲] في هذه المرحلة لم يكن الشخص المسلم قادراً علي الإستفادة من جميع قدراته الحياتية، لأنه لا يمتلك إمكانية السيطرة علي قسم من غرائزه. هذه الحالة من الناحية الإجتماعية معناها أن مجموع القدرة الإجتماعية لا تعمل. لذلك تتحرر الغريزة تدريجياً من سيطرة الروح لتسيطر علي مصير الشخص. في هذه النقطة تدخل الحضارة ثالث مرحلة لها يعني «مرحلة الغريزة». في هذه المرحلة تنتهي الوظيفة الإجتماعية للفكر الديني و تتساقط شبكة العلاقات الإجتماعية للمجتمع و تنحدر أخلاق أفراد المجتمع نظراً لتجفيف الموارد الروحية و العقلية.  [۲۳] [۲۴] [۲۵] هذه المرحلة من الحضارة الإسلامية تتطابق مع أواخر العصر العباسي و الفترة التي تلت ذلك حتي عصر ابن خلدون و كذلك مرحلة ما بعد سلسلة الموحدون في المغرب. لذلك يسمي مالك بن نبي الإنسان في تلك المرحلة «إنسان مابعد الموحدون»؛ الإنسان الذي فقد قيمته الإجتماعية بسبب ظهور خلل في قدرته الروحية و المعنوية و يسعي فقط من أجل تحقيق مصالحه الفردية. هنا تسيطر الفردية علي المجتمع و مع تفكك عري شبكة العلاقات الإجتماعية تبرز ظروف الإستعمار ثم تحل بعد ذلك فترة الإستعمار.  [۲۶] [۲۷] [۲۸].

إعادة تأهيل «الإنسان بعد الموحدين»

برأي بن نبي فإن «الإنسان قبل الحضارة» كان إنساناً طبيعياً و عفيفاً حيث كان جاهزاً بشكل كامل للدخول في فترة حضارة، لكن الإنسان بعد الحضارة فالإنسان مضني ولا يمتلك ثانية القدرة علي إنتاج «العمل الحضاري» إلا إذا تغيّر من جذوره. [۲۹] [۳۰] [۳۱] من هنا يتناول مالك بن نبي سبيل حل مشكلة الحضارة الإسلامية و يعود ليطرح مرة ثانية العناصر الثلاثة الإنسان، الأرض و الزمن. فهو يؤكد علي ضرورة الإستفادة من الأرض سواء من أجل الزراعة أم من أجل استخراج المعادن والثروات الكامنة فيها من أجل تحقيق الرفاهية الإجتماعية كما أنه يعطي أهمية للوقت و الإستفادة من كل لحظة منه لأجل «العمل و الإنتاج المنظم» وفي النهاية يصل إلي عامل «الإنسان» ليقوم بالبحث بشكل تفصيلي حول إعادة تأهيل «الإنسان بعد الموحدين». يتمسك بن نبي من أجل إعادة تأهيل هذا الإنسان بقاعدتين إسلاميتين: تغيير النفس، مستفاد من الآية الحادية عشرة في سورة الرعد و الإصلاح مأخوذ من الحديث الشريف «لايصلح آخر هذه الاُمة اِلاّ بما صلح به اَوّلها» لذلك يبدأ هذا الإصلاح من تلاوة وفهم القرآن بطريقة يشعر فيها المسلم أن هذه هي المرة الأولي التي يكشف له القرآن. يقوم بن نبي هذه المرة بنقل هذا الكلام عن محمد إقبال لاهوري وهو «الشيء الذي أثّر بي أكثر من أي شيء آخر هو تلك النصيحة التي سمعتها من أبي حيث كان يقول: ولدي، اقرأ القرآن بطريقة كأنه قد نزل عليك.» [۳۲] [۳۳] برأي بن نبي فإن الإنسان الذي يصنع الحضارة يجب توجيهه وإرشاده في ثلاثة  مجالات هي الثقافة، العمل والمال. فالثقافة من وجهة نظره «مجموعة من الصفات الأخلاقية والقيم الإجتماعية التي يعتبرها الشخص في الأجواء التي ولد فيها بمثابة  رأسمال أولي.». يعتبر بن نبي أن العمل هو العامل الوحيد الذي يحدد مصير الأشياء في إطار اجتماعي ما كما أن توجيهه بمثابة توجيه جميع النشاطات الجماعية في مسير واحد بهدف إيجاد تغيير في وضع الإنسان وخلق أجواء جديدة من أجل تنمية القدرات الفردية في المجتمع. وأخيراً فإن للمال أو الثروة أهمية كبيرة بعنوان وسيلة اجتماعية من أجل النهضة  في سياق التقدم المالي و ليس كأداة سياسية لدي عدد من المستثمرين من أجل استغلال جهود غالبية الشعب.  [۳۴] [۳۵] [۳۶]

                                                                                                                                                                                                                                                      

 

التوازن بين الكم والكيف، العقل والروح، الوسيلة والهدف، العلم و الضمير

إضافة إلي العوامل المذكورة فإن إحياء أو إعادة تأهيل الحضارة من منظور بن نبي ترتبط بإحياء الفكر الديني. بن نبي لا يقبل الحضارة بالطريقة الغربية أبداً، بل يعتقد أن الحضارة الغربية هي استمرار لحضارة القرن التاسع عشر الميلادي وهو الآن في مرحلة الإفلاس ولا يمكن أن يكون وسيلة لتحرر العالم الإسلامي. بن نبي يطالب بالحضارة الأصيلة بحسب خصائصه هو، «حضارة يقوم فيها المدربون بتعليم الشباب كيف بإمكانهم كشف طرق من دجل هداية و تقدّم الركب البشري، لا أن يكونوا تابعين للروس أو الأمريكيين».[۳۷] [۳۸] بعقيدة بن نبي فإن أول مهمة للعالم الإسلامي هي إيصال نفسه عن طريق تخطيط علمي منظم إلي أعلي مستوي من التقدم المادي من دون أن يفقد قيمه الأخلاقية، لأن الحضارة الإسلامية الجديدة يجب أن تقوم علي أساس التوازن بين الكم والكيف، المادة والروح، الوسيلة والهدف وأخيراً العلم والوجدان. بعبارة أخري؛ إن نهضة العالم الإسلامي ليست في الإنسلاخ عن القيم بل هي الجمع بين العلم والإيمان. [۳۹] [۴۰]

الدور المصيري لباكستان، جاكرتا والهند في «الإنسان بعد الموحدين»

حول مستقبل العالم الإسلامي، كان مالك بن نبي إضافة إلي اهتمامه بالتيارات الإصلاحية و الحداثية التي تلعب دوراً في تصوير وجه جديد للعالم الإسلامي فإنه قد اهتمّ بظاهرة انتقال مركز ثقل العالم الإسلامي من منطقة البحر الأبيض المتوسط إلي آسيا حيث كان يعتبر  هذه الظاهرة سبباً لظهور نتائج نفسية، ثقافية، أخلاقية، اجتماعية وسياسية في العالم الإسلامي وحركته نحو المستقبل. فهو يعتقد أنه في جاوه وباكستان وجاكرتا هناك تفوق في جوانب الفكر والعمل علي جانب العلم التقليدي المغلق كما أن باستطاعة العالم الاسلامي إعادة بناء نفسه للوصول إلي القدرات المطلوبة و يتعلم طرق الحياة[۴۱]. من جهة أخري فإن المجتمع الإسلامي في جوار الهند وإلي جانب الأديان الإبراهيمية و البوذية سيحقق ثورة داخلية في جو روحاني ستكون نتيجتها حوار بين القلب و الفكر و هو الشيء الذي يحتاج إليه كثيراً «الإنسان بعد الموحدون» ولم يتم العثور عليه في سواحل البحر الأبيض المتوسط. إن رأي مالك بن نبي هذا الذي كان تحت تأثير الظروف السياسية- الإجتماعية للعالم الإسلامي في عام 1949م قد لاقي انتقاد العديد من العلماء و الكتّاب العرب. [۴۲]

لقد كان اهتمام بن نبي بالقرآن كبيراً جداً. أول كتبه، الظاهرة القرآنية، أصل الكتاب باللغة الفرنسية، حيث يظهر وجهة نظره هذه.

إنه يحاول دائماً في هذا الكتاب و كتبه التي تلته أن يستنبط أسس أفكاره من القرآن والسنّة النبوية. الهدف الأساسي لبن نبي من تأليف الظاهرة القرآنية إيجاد إصلاح لطريقة المعرفة في تفسير القرآن و المساعدة علي الإستنتاجات القرآنية الحديثة من أجل المتنورين و المتعلمين المسلمين الذين كانوا يسعون مقابل الثقافة الغربية التمسك بقاعدة متينة في تراثهم الماضي. في مقدمة الكتاب التي أضيفت إلي الترجمة العربية يشير إلي دافعيه الأساسيين: خلق أرضية وفرصة للشباب المسلمين من أجل أن ينظروا في الدين بشكل صحيح و إصلاح لائق في الطريقة التقليدية لتفسير القرآن. [۴۳]

أكبر خطر يهدد الثقافة والفكر الإسلامي: الإستشراق

برأي بن نبي فإن أكبر خطر يهدد الثقافظ والفكر الاسلامي هو الإستشراق الذي لم يتعلم المسلمون حيله حتي الآن و لم يشعروا بتأثيره في جميع تفاصيل حياتهم الثقافية و شؤونهم الإنسانية؛ خاصة و أن هذه الظاهرة الآن تتخفي في أثواب جامعية و تجري علي لسان و قلم قسم من مشاهير المسلمين. عندما ننتبه إلي أنه في كل عام يقوم طلاب سوريون و مصريون- يعني أساتذة مستقبل الثقافة العربية و مؤسسي النهضة الإسلامية- بعرض أطروحات كثيرة فقط في جامعة باريس و يؤكدون فيها علي تفسير وشرح أساتذتهم الغربيين فإننا ندرك أن هناك خطر كبير. في هذا المكان يقوم بمهاجمة طه حسين بسبب تأليفه كتاب في الشعر الجاهلي كما أنه ينتقد تبعيته لمارغليوث حيث يقوم بالتشكيك في صحة الشعر الجاهلي و صحة انتسابه إلي شعراء الجاهلية يعبّد الطريق من أجل التقليل من أهمية الإعجاز القرآني. [۴۴]

أول و أهم تحدي يواجه بن نبي من أجل إثبات اعتبار وصحة القرآن هي قضية إعجاز هذا الكتاب و كونه غير بشري. فهو علي الأصول لا يقبل وجهة نظر المفسرين التقليديين في الوقت الحالي الذين يتمسكون بالإعجاز البياني و الأدبي من أجل إثبات ألوهية منشأ ومصدر القرآن الكريم ومازالوا إلي الآن يحاولون جعل الفصاحة والأوج الأدبي والبلاغي للقرآن دليل إعجاز و مبني تحدّي للقرآن. هذه الطريقة فعّالة فقط من أجل النخب الثقافية للمجتمعات العربية.

في معظم الدول الإسلامية وخاصة في الممالك غير العربية قليلاً ما نعثر علي شخص يستطيع أن يقارن و يحكم بين آية من القرآن و شعر أو نثر من الأدب الجاهلي. لفترة طويلة جدا فقدنا عبقرية اللغة العربية تلك و أصبحنا نكتفي في هذا الباب فقط بالمعتقدات التقليدية. [۴۵]

باعتقاد بن نبي فقد كان الناس في بداية ظهور الإسلام وبسبب هويتهم الأدبية واللغوية كانوا يتلمّسون إعجاز القرآن بذوقهم الحرّ؛ بعد ذلك و حتي العصر العباسي تقريباً كان «الذوق العلمي» للأدباء والعلماء كافياً من أجل إدراك ألوهيت و إعجاز القرآن. الآن و نظراً لآية «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الْرُّسُلِ [۴۶] يمكن اعتبار رسالة الرسول الأكرم (ص) مثل بقية الرسالات ظاهرة بالمعني العلمي للكلمة حيث أن لها في الظروف الزمانية والمكانية المماثلة آثار و نتائج  مماثلة أيضاً. في الواقع إن معجزة شخص الرسول في عصره هو تلك الأدلة التي كان يقدّمها من أجل إسكات منكرية، لكن معجزة الدين هي واحدة من أدواته الدعائية. هذا بمعني أن «المعجزة» قابلة للفهم من أجل جميع المخاطبين، وفي الوقت نفسه هي أعلي من قدرتهم جميعاً. الأهم من ذلك أن المعجزة يجب أن تكون مستمرة في جميع الفترات المفروضة للدين حتي تتحقق الدعوة للدين دائماً. من هنا كانت معجزة القرآن في بداية ظهور الإسلام يتم تلقيها بذوق فيري و بعد ذلك بذوق علمي؛ لكن اليوم، فإن المسلم مجبر علي أن يعثر علي تلك المعجزة بشكل آخر وهو دراسة مضمون رسائل القرآن. و ليس ظاهر عباراته. [۴۷] [۴۸]

 

أسلوب بن نبي في كتاب الظاهرة القرآنية يقوم علي هذا الأساس. فهو يتأمل في طبيعة النفس البشرية و يتناول فيرة البحث عن الله لديه علي مرّ تاريخ المذاهب البشرية كما يحاول من خلال التدقيق في تاريخ النبوة  وخصائص الأنبياء و المضامين القرآنية التعرّف علي أسس الدين و خاصة المباديء العقائدية والإجتماعية للدين الإسلامي. إنه بميوله الإجتماعيه في التفسير يقوم بعرض المفاهيم والمضامين القرآنية بطريقة تشمل الشؤون  الإجتماعية والإقتصادية والثقافية لحياة البشر وفي هذا الطريق يكون نظره دائماً علي الوضع البشري الحالي وحاجة الحضارة البشرية إلي طقوس شاملة و إلهية. مع هذا كله فإنه أحياناً و مثل القائلين بالتفسير العلمي للقرآن يحاول بن نبي إثبات انطباق قسم من آيات القرآن مع أحدث النظريات العلمية. [۴۹] [۵۰]

فارق بن نبي الدار الفانية في 31 أكتوبر عام 1973 في الجزائر. [۵۱] [۵۲] [۵۳] [۵۴]

 

 

المصادر:

۱. مرتضي كريمي نيا، آراء وأفكار الدكتور نصرحامد آبوزيد، ج۱، ص۱۰۲، طهران 1997 م

۲. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۵، دمشق ۱۹۹۲

۳. أسعد سحمراني، مالك بن نبي االعالم المصلح، ترجمة صادق آئينه وند،ص ۱۵، طهران 1990 م

۴. أسعد سحمراني، مالك بن نبي العالم المصلح، ترجمة صادق آئينه وند، ص ۱۶، طهران 1990 م

۵. موسوعة السياسة، طباعة عبدالوهاب كيالي، بيروت ۱۹۷۹ـ۱۹۹۴، ذيل «مالك بن نبي».

۶. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۶۰۳ـ۶۰۴، عمان ۱۹۸۸

۷. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث،ج۱، ص۴۱۶، عمان ۱۹۸۸

۸. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۲۱، دمشق ۱۹۹۲

۹. الرعد/سوره۱۳، آيه۱۳:آيه۱۱

۱۰. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۱۶ـ۴۱۷، عمان ۱۹۸۸

۱۱. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۲۸ـ۲۹، دمشق ۱۹۹۲

۱۲. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص۳۳، دمشق ۱۹۹۲

۱۳. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۱۷ـ ۴۱۸، عمان ۱۹۸۸

۱۴. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين،ص۴۷، دمشق ۱۹۹۲

۱۵. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث،ج۱، ص۴۱۸ـ۴۱۹، عمان ۱۹۸۸

۱۶. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين،ص ۵۰، دمشق ۱۹۹۲

۱۷. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۱۹ـ۴۲۰، عمان ۱۹۸۸

۱۸. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين،ص ۵۸ ـ۵۹، دمشق ۱۹۹۲

۱۹. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۲۹، دمشق ۱۹۸۹

۲۰. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۲۰ـ۴۲۱، عمان ۱۹۸۸

۲۱. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۷۶، دمشق ۱۹۹۲

۲۲. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۳۱، دمشق ۱۹۸۹

۲۳. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۲۱، عمان ۱۹۸۸

۲۴. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين،ص ۷۷، دمشق ۱۹۹۲

۲۵. مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة عبدالصبور شاهين،ص ۱۴۴، قاهره ۱۹۶۲

۲۶. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث،ج۱، ص۴۲۱ـ۴۲۲، عمان ۱۹۸۸

۲۷. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين،ص ۳۶، دمشق ۱۹۸۹

۲۸. مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۹۶، قاهره ۱۹۶۲

۲۹. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۲۲، عمان ۱۹۸۸

۳۰. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۷۴، دمشق ۱۹۹۲

۳۱. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص۷۸، دمشق ۱۹۹۲

۳۲. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۲۳، عمان ۱۹۸۸

۳۳. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين،ص ۶۵، دمشق ۱۹۹۲

۳۴. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث، ج۱، ص۴۲۳ـ ۴۲۵، عمان ۱۹۸۸

۳۵. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۸۸ ـ۸۹، دمشق ۱۹۹۲

۳۶. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، ص ۱۲۰ـ۱۲۱، دمشق ۱۹۹۲

۳۷. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث،ج۱، ص۴۲۵، عمان ۱۹۸۸

۳۸. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۱۱۸، قاهره ۱۹۵۹

۳۹. فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث،ج۱، ص۴۲۵ـ۴۲۶، عمان ۱۹۸۸

۴۰. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۱۶۹ـ۱۷۰، دمشق ۱۹۸۹

۴۱. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص۱۸۲ـ۱۸۳، دمشق ۱۹۸۹

۴۲. مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ترجمة عبدالصبور شاهين، ص ۱۸۳ـ۱۸۶، دمشق ۱۹۸۹

۴۳. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۵۳، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۴۴. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۵۴ ـ۵۷، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۴۵. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۵۸ ـ۵۹، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۴۶. احقاف/سوره۴۶، آيه۴۶:آيه ۹

۴۷. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۶۲، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹ 

۴۸. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص۷۱، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۴۹. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۳۳۹، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۵۰. مالك بن نبي، الظّاهرة القرآنيّة، ترجمه عبدالصبور شاهين، ص ۳۵۳، بيروت ۱۳۸۹/۱۹۶۹

۵۱. مالك بن نبي، شروط النّهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي و عبدالصبور شاهين، معلومات الغلاف، دمشق ۱۹۹۲

۵۲. أسعد سحمراني، مالك بن نبي االعالم المصلح، ترجمة صادق آئينه وند، ص۷، طهران 1990 م

۵۳. أسعد سحمراني، مالك بن نبي العالم المصلح، ترجمة صادق آئينه وند، ص۱۵، طهران 1990 م

۵۴. انور جندي ، أعلام الدعوة و الفكر، أعلام القرن الرابع عشر الهجري، ،أعلام الدعوة و الفكر، ج ۱: ص۱۴۴ـ ۱۴۵ ، قاهره ۱۹۸۱

 




المستعمل تعليقات