على امتداد التاريخ الإسلامي تقريباً كان العقل الطائفي حاضراً في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية و.. مكوّناً بُنيات الوعي الديني عند المسلم؛ ليغدو جزءاً لا ينفك عن الوعي نفسه، حتى لم يعد يمكن لكثير من المسلمين تصوّر الدين بعيداً عن الطائفية والانحياز الطائفي السلبي، فإذا ما حاول الفيلسوف حيناً والعارف المتصوّف حيناً آخر أن يُخرج الوعي من هذا المنغلق لم يرَ سوى تهمة الزندقة عنواناً لحركته في حياة المسلمين.
حيدر حب الله(*)
ولعلّ من أوجه دراسة الظاهرة الطائفية المنحازة ـ سلبيّاً ـ في العقل الإسلامي أن ندرس حركة عدم الانحياز الطائفي كأنموذج بديل، ولنحلّل أسباب الفشل والإخفاق والترنّح في هذه الحركة؛ في محاولةٍ تذهب للتعالي عن ممارسة تنـزيه للذات عبر لعن الآخرين، أو تطهيرها من خلال قذفهم بألوان الفاحشة، وربما يكون ذلك مفتاحاً لنهوض حركة الوعي الإسلامي؛ بأن تغدو قادرةً على نقد ذاتها كما هي ممتازة في نقد الآخرين، فلعلّ الحلّ فينا لا عند الآخرين، وكما هو مضمون قول الشاعر: قد تدور حول العالم طلباً للحبيب ولست تدري أنّه بجانبك.
1 ـ لم يولد الوعي الإسلامي اللاطائفي في العصر الحديث من مخاض طبيعي استدعته تفاعلات داخلية متصاعدة في الداخل الإسلامي، وإنما كان عبر ولادة قيصرية فُرضت عليه من خارجه، وأعني بهذا الخارج ظاهرة الآخر الحضاري بشكله الاستعماري إلى جانب ظهور الكيان الصهيوني في المنطقة الإسلامية، الأمر الذي دفع المفكّر المسلم لخلق حالة طوارئ في حياته هي التي جرّته لإعادة ترتيب علاقاته الداخلية كي يصالح خصومه التاريخيين في الداخل حمايةً لوجوده، ومعنى ذلك أنّه عندما يزول الخطر الخارجي فلا شيء يضمن استمرار حالة التلاشي الطائفي في المجتمع، بل سيبدو الوضع اللاطائفي في غاية الهشاشة.
إنّ جعل المنطلق السياسي هو المبرّر الوحيد والأساس للتعالي عن الطائفية خدّر الأطراف لكنّه لم يُشفها من دائها، من هنا كان المفروض إعادة إنتاج المفهوم اللاطائفي من ثنايا بُعدين إضافيين ينضمان إلى البُعد السياسي، وهما: البُعد الاجتماعي والبُعد المعرفي.
2 ـ يتمثل البُعد الاجتماعي في العلاقات الاجتماعية العفوية التي تربط آحاد المسلمين ببعضهم في شؤونهم اليومية، وهذا ما يستدعي رفض مفاهيم من نوع تكوين مجتمعات مذهبية خالصة بإحداث تغييرات ديموغرافية لصالح إبعاد أجسام مذهبية أخرى عن المجتمع؛ لأنّ هذا الواقع هو الذي يغيّب الآخر، ويسمح لصنّاع الصور المشوّهة عن الآخرين بالاستفراد بتكوين صورة الآخر في المجتمع بائسةً مكروهة، كما وجدنا في بعض المجتمعات ذات الأغلبية المذهبية الساحقة.
وهذا الأمر يستدعي حرصاً من جانب من تمسّ مقولاتهم ونشاطاتهم البُعد الديني ـ الاجتماعي معاً؛ وبالخصوص الفقهاء، فالتنظير لمسألة الزواج من أبناء المذاهب الأخرى، وشرعية المعاملات الاقتصادية معهم، واستحقاقهم الأموال الشرعية والصدقات، وكذا البحث في جواز غيبة المسلم من غير المذهب الذي يعتقده، أو جواز الصلاة خلفه جماعةً، وهل أن الاعتقادات ركن أساس في بناء مفهوم العدالة؟ بمعنى أن الذي لا يعتقد بالمذهب الحقّ ـ حسب تصوّر كل إنسان ـ هل يغدو فاسقاً حتى لو كان ملتزماً بأحكام الشريعة تماماً وفق مذهبه أم أن الفسق والعدالة أمران تابعان لما يعتقده الإنسان حراماً ويفعله أو حقاً ويعانده كما ذهب إلى ذلك بعض فقهاء المسلمين؟ وكذا مسألة العلاقات الاجتماعية وحقوق المؤمن على المؤمن ومدى سريانها إلى المسلم من سائر المذاهب، واشتراط الإسلام أو المذهب الخاص في القاضي والمفتي والشاهد و… وكذا الدفاع عن المسلم من المذاهب الأخرى ضدّ هجمات الكافرين واعتدائهم و.. مفاهيم لابدّ من إعادة قراءتها بصورة جريئة وموضوعية في آن، طبقاً لما يمكن أن يكوّن أحدث القراءات الفقهية للمذاهب الإسلامية، كما يفترض الحيلولة دون كلّ ما يعيق هذا التعايش الاجتماعي.
3 ـ ويتمثل البُعد المعرفي، في إعادة تكوين العلوم الإسلامية برمّتها تكويناً جديداً يتخذ الطابع الإسلامي غير المذهبي، بمعنى أن تدرس الفلسفة الإسلامية بعيداً عن التمذهب؛ فلا يغيّب ابن رشد ولا صدر المتألهين الشيرازي، وتنظّم الموسوعات الحديثية لتستوعب تمام الحديث الإسلامي عند المذاهب، وكذلك الموسوعات الرجالية، وعلى المنوال عينه نستبدل أعيان الشيعة وطبقات الشافعية بأعيان المسلمين وطبقاتهم، ونعيد تكوين علمي: الفقه والأصول إسلامياً، لا لكي يطّلع هذا الفريق على الآخر، ولا لكي نقارن أو ننتقد؛ بل لكي تُشاد علومنا الإسلامية وفق بُنية تحتية شاملة ومستوعبة.. فهذا هو ما يكسر التشظّي الموجود في وعينا الديني.
4 ـ المشكلة الأخرى الأكثر تعقيداً، والتي قد لا يكون معنى للحلول السابقة من دون وضع حلّ لها، هي مشكلة من يملك قرار هذه الطائفة أو تلك، فعندما يتصدّر الطائفيون كرسي السلطة في طوائفهم، فإنّ دعاة الانفتاح الإسلامي سيواجهون أزمة شرعية، وهذا ما يعيق بدوره أيّ فرصة لحلحلة الوضع الطائفي في الفكر الإسلامي؛ لأنّه سيبدي العقل اللاطائفي خارج المربّع الديني على مستوى الرأي العام، مما سيُعجزه عن ممارسة أيّ تأثير على الأرض، وهذا ما حصل بالضبط لأنصار الاتجاه غير الطائفي، فغدو ليبراليين أو مُلحدين أو ضالّين في مجتمعاتهم، وانعزلوا وأقصوا وفشلوا إلا من بعض الكلام الذي خُلعت عليه لغة النخبة؛ لأنّ هذه اللغة هي اللغة الوحيدة المتبقية التي تسلّي المثقف المسلم النهضوي، وتشعره بذاته.
عندما تكون المؤسّسة الدينية الرسمية في مذهبٍ ما طائفيّةً فنحن أمام خيارات، إمّا ننعزل ونخاف ونبرّر خوفنا بمقولات مثل المراحلية والتكتيك والعمل الهادئ البعيد المدى، وفي نهاية المطاف نصبح كمن يغرّد خارج السرب، أو نهرب إلى الأمام فننفجر حتى لا يُرى منّا سوى أشلاء ما بعد الانفجار، أو نختار سبيلاً أكثر واقعيةً وعقلانيةً وهدوءاً، لكنّه لا يخلو من مزعجات، وأعتقد أنّه سبيل مزدوج من النفوذ داخل المؤسّسة الرسمية لإحداث تحوّلات ـ ولو طفيفة ـ في العقل عبر إعادة إنتاج الوعي من خلال الآليات نفسها التي تنتج منها هذه المؤسسةُ مفاهيمَها، علّ ذلك يحدث زحزحةً في بعض المواقف، إلى جانب العمل المنفصل عن هذه المؤسّسة والذي يُبنى على مراكمة أجيال لتكوين شريحة جديدة تمثل مرجعية معرفية أخرى، إلى جانب المرجعية السائدة.
5 ـ عبر هذا السبيل لا نقوم في حالات اليأس من إصلاح المؤسّسات الرسمية ذات الطابع المذهبي باللهث وراء إصلاحها، بل نحوّل وجهة عملنا إلى الشارع وعموم الناس، فنحاول أخذهم إلينا وهذا ما لا يمكن أن يحصل باتّباع سياسة نقدية بحتة للمفاهيم الدينية ذات طابع علمي محايد للغاية؛ لأنّ القاعدة الشعبية لن تعتبر هذه اللغة والطريقة ذات طابع ديني، فلابدّ من قدرٍ ما من الأدلجة في عرض خطابنا الفكري بغية إيجاد تحريك لدى الجماهير، فلم تحرّك نصوصُ الفلاسفة يوماً أحداً نحو التغيير بل حرّكته نصوص الزهّاد ولو كانوا جهلة، فالمفترض الإمساك بأسباب التغيير وعدم التطهّر أمامها، فقد غرق مثقفنا الإسلامي والعربي بمقولة موت الأيديولوجيا، لكن بدايات الألفية الثالثة كشفت عن واقع خطير على العكس تماماً مما نتصوّر، فلا ينبغي محاسبة المجتمعات وتقييمها تقييماً واحداً، الأمر الذي يُبعدنا عن الواقعية في قراءة الظرف والمناخ والمحيط، لنغرق في نرجسية وسوريالية تبقى لنا لوحدنا وتبقينا لوحدنا.
لا يصحّ ـ في مثل موضوعنا ـ تقييم واقع مجتمعاتنا المعرفي على أساس حال النخب، كما أخطأ كثيرون في ذلك، بل على أساس حال متوسّط الناس، وهو الحال الذي ما زال لا ينبعث عن لغة علمية غير عاطفية ولا مؤدلجة ولا متحرّقة على الدين، وهذا ما يستدعي النفوذ إلى وسائط الاتصال الجماهيري سيما تلك التي تستخدمها الأطراف الطائفية، ولو بدت لنا كلاسيكيةً اجترارية؛ فلا يصحّ التنـزّه عنها وتركها للآخر؛ لأنّ هذه هي الوسيلة الهجومية الأفضل لجعل الطرف الآخر في موقع الدفاع بدل أن يكون في موقع الهجوم.
إذا لم يكن الفريق الواعي اللاطائفي مؤمناً بالدين إيماناً روحياً متفاعلاً مع الهمّ الديني دون نفاق ولا مداهنة، فلن تعترف به المجتمعات الدينية كالكثير من مجتمعاتنا، أمّا إذا أراد أن ينتظرها حتى تتغيّر عن هذا السبيل فقد تموت أجيال دون الوصول إلى ذلك، فضلاً عن أن غرضنا حماية الدين والإنسان، لا تدميرهما.
6 ـ انطلاقاً من مجمل ما تقدّم، أدعو مختلف أطياف الاتجاه اللاطائفي في مجتمعاتنا الإسلامية إلى إعادة قراءة تجربتها مرّةً أخرى، ونقد هذه التجربة والإعلان عن ولادة مرحلة جديدة من العمل؛ لأنّ جهود ما يقارب القرن من الزمان على هذا الصعيد انهارت عند فرقاء معتدلين ـ فضلاً عن غيرهم ـ في الساحة الدينية عند أوّل مفترق وتحدّي حقيقي مرّت به الأمّة، وهذا ما يكشف عن أخطاء حقيقية، لعلّ أبسطها الحاجة للمكاشفة والشفافية والخروج النسبي من مرجعية التاريخ، كي لا يُقاتَل أبناء هذه الطائفة بجرمٍ ارتكبه آباؤها، وتصفّى حسابات الماضي في العصر الحاضر، بدل أن يُنتج المستقبل من هذا العصر عينه، وأطياف الاتجاه اللاطائفي مدعوّة للتخلّي فيما بينها عن حالة التنافس السلبي الذي باتت تشهده، ينخرها حتى الصميم، لوضع يدنا جميعاً في يد بعضنا بعضاً؛ علّ الله يرزقنا بعض شرف الإصلاح في هذه الأمة المباركة.
فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (*) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (*) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. ]الروم: 30 ـ 32 [
_________________________________________________________________________
(*) نصّ الكلمة التي ألقيت في ندوة >الطائفية< التي أقامها مركز التنمية الحضارية في إيران، شتاء 2007م، ثم نشرت في مجلّة المنهاج، في بيروت، صيف عام 2007م.