محمد الدسوقي
1428
• التقريب محاولة لكسر شوكة التعصّب وجمع كلمة الأمة على أصول عقيدتها • اختلف فقهاء المذاهب ولم يجمعوا على مشروع فقهي مما فسح المجال لدخول القوانين الأجنبية إلى بلداننا • لا بدّ أن نرسم أمام شبابنا الغد المشرق بالخير والعزّة والحضارة والتقدم • تفرّقنا فتح ثغرات لنفوذ الأعداء، مما كرّس حالة تخلّفنا • لا بدّ من نسيان ميراث العداوات الذي ورثناه من عصور الذلّة والخوف • مسؤولية التقريب تقع بالدرجة الأولى على عاتق الفقهاء .
تتمتّع الأمة الإسلامية بجملة من الخصائص التي لا تتمتّع بها أمة أخرى، وهي خصائص واضحة لمن يفقه عقيدة هذه الأمة ويقرأ تاريخها ويدرس حاضرها، فهي تحتلّ موقعاً جغرافياً متميزاً، من حيث المناخ، وخصوبة التربة، وتنوّع البيئة، وهو موقع يحتلّ وسط العالم، ويربط بين شرقه وغربه، فله بذلك أهميّة دوليّة خاصّة.
وبالإضافة إلى هذا الموقع الفريد تمثّل الأمة الإسلامية من حيث الكثافة السكانية نحو خمس العالم، فهي ثروة بشريّة هائلة، والبشر في كلّ الأزمنة والعصور هم صنّاع التقدّم والحضارة.
والأمة، إلى هذا، تتمتّع بثروة ماديّة طائلة، فهي الأراضي الشاسعة المزروعة والصالحة للزراعة، وفي بلادنا تجري أهمّ الأنهار، وتحت ترابها أنهار أخرى من النفط، وفي جبالها وصحاريها كلّ المعادن التي لا غنى للناس عنها.
وفضلاً عن خصائص الموقع والثروة البشرية والثروة المادّية فلدى هذه الأمة العقيدة التي تحمي البشرية من ضلالات الوثنية، والتشريع الذي يكفل العدل للجميع، ويساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، وينقذ المجتمعات الإنسانية من فوضى التجارب القانونية، والنظريات والمذاهب الوضعيّة.
ولكن، ما بال هذه الأمة على ما تتمتّع به من تلك الخصائص وسواها قد حلّ بها الوهن، وفقدت المنـزلة التي بوّأها الله إيّاها، وتعرّضت للعدوان عليها من مختلف الأمم؟! ما الذي جعل هذه الأمة التي تمتلك كلّ مصادر القوة بمفهومها الشامل، أمة ضعيفة لا يقيم لها العالم وزناً، وكانت من قبل صاحبة القيادة والسيادة، وكان الكلّ يخطب ودّها، ويسعى للأخذ عنها؟!
تختلف تعليلات الباحثين والمفكّرين فيما آل إليه حال هذه الأمة، ومع اختلافهم وتنوّع مشاربهم الفكرية والسياسية يكادون يتّفقون على أنّ التفرّق بين أبناء هذه الأمة وشعوبها، ثمّ ما يخطّط له أعداؤها لكي لا تنهض من كبوتها، أو تسترجع قوّتها أهمّ أسباب الضعف والتخلّف.
والذي لا مراء فيه أنّ التفرّق وما نجم عنه من ضعف وذهاب ريح كان نتيجةً لضعف الإيمان بالعقيدة، وتسرّب الأوهام والأفكار الفاسدة إلى الأفئدة والمشاعر، ومن ثم يصبح السعي الجادّ في سبيل أن يكون للعقيدة في النفوس سلطانها الفاعل وتأثيرها الكامل هو: البداية الصحيحة للتخلّص من الأفكار الفاسدة والمفاهيم الباطلة التي مزّقت الأمة، وفي مقدّمتها التعصّب المذهبي.
إنّ التقارب بين المذاهب هو في جوهره: محاولة لكسر شوكة التعصب، وجمع كلمة الأمة على أصول عقيدتها والمبادئ الأساسيّة لدينها.
إن الوحدة الفكرية مقدمة ضرورية للوحدة السياسية، والأمة الإسلامية يوحّد بينها فكرياً القيم الخالدة لدينها، والأصول الأساسية لعقيدتها، ولكنّ التعصّب المذهبي جعل بين أبناء هذه الأمة وأصول عقيدتها وقيم دينها ستاراً كثيفاً من الجهل والنسيان، فلم يفرّقوا بين ما يجب الإيمان به وبين المعارف الفكريّة التي تختلف فيها الآراء دون أن تمسّ القيم والأصول الكليّة للعقيدة، ولذا تفرّقوا وتنازعوا، وأصبح بأسهم بينهم شديداً، قديماً وحديثاً، ولن تتحقّق الوحدة الفكريّة دون تقارب بين المذاهب يُلغي التعصّب الكريه من جهة، ويقود الأمة إلى الوحدة الجامعة من جهة أخرى.
وإذا كانت الأصوات ترتفع الآن تطالب بتطبيق أحكام الشريعة كلّها والتحرّر من القوانين الوضعيّة فإنّ التعصّب المذهبيّ ساعد على دخول هذه القوانين إلى الديار الإسلامية، لأنّ الفقهاء اختلفوا، وحاول أتباع كلّ مذهب أن يكون لفقه مذهبه الكلمة الأولى في تطبيق هذه الأحكام، ممّا حمل الحكّام على أن يستوردوا القوانين الأجنبية ما دام الفقهاء لم يتّفقوا ويتعاونوا في تقديم قانون إسلامي صالح للتطبيق وفق ظروف العصر ومقتضيات الأحوال، وهذا يعني: أن التقارب بين المذاهب إن كان سبيلاً للوحدة بين أبناء الأمة فهو أيضاً سبيل للتطبيق الكامل لأحكام الشريعة.
ولأنّ الشباب في كل أمة هم رجال مستقبلها وطليعة نهضتها، يجب أن يوجَّهوا الوجهة السديدة التي تُنير أمامهم الطريق نحو غد مشرق بالخير والعزة والحضارة والتقدم، وهذا التوجيه في أمتنا ملاكه: الإسلام عقيدة وشريعة، غير أننا إذا أمعنّا النظر في واقعنا المعاصر وحاولنا أن نعرف المسار الفكريّ لشباب الأمة فإنّنا نلاحظ: أنّ هذا الشباب بوجه عام لم يجد من يقدم له التراث الفقهي نقياً من شوائب الآراء الفاسدة والمواقف الجائرة، ومن هنا ولّى وجهه نحو الثقافات الأجنبية دون تمييز بين غثّها وسمينها، ونظر إلى التراث الإسلامي كلّه نظرة امتعاض وامتهان، فلم يقبل عليه أو يهتمّ به، وقد ترتّب على هذا أن هان على الشباب تأريخهم، وصغر في أعينهم عطاء حضارتهم وتراثهم، بل كاد أن يُصبح الدين غير عزيز عليهم، وهذا أخطر ما منيت به الأمة بسبب التعصّب المذهبي وما جرّه عليها من التفرّق والتنازع.
وقد كان غزو العالم الإسلامي وفرض النظم التعليميّة الغربيّة فضلاً عن الأعراف والتقاليد والقوانين التي تنكرها العقيدة الإسلامية من العوامل التي ساعدت على غربة الشباب عن دينهم وتأريخهم وظهور الثنائية الثقافية، بسبب ازدواجية التعليم، وتقسيمه إلى ديني ومدني.
وكان ردّ الفعل لهذه الغربة ولمحاولة الغرب طمس معالم الأصالة الإسلامية في شتّى المجالات هو: العمل للعودة إلى هذه الأصالة فظهر عدد من الدعاة والمصلحين الذين حذّروا الأمة من مغبّة تمزّقها الفكريّ، وخصامها غير العقليّ لتراثها وتأريخها، وبيّنوا لها أنّ سبيل نهضتها يكمن في الاعتصام بدينها اعتصاماً يحقّق معنى الأخوة الإسلامية تحقيقاً كاملاً، وأثمرت جهود هؤلاء الدعاة، فعرفت الأمة ما يسمّى بـ "الصحوة الإسلامية"، والمطالبة بأن يكون التشريع الإسلامي هو وحده القانون الذي نتحاكم إليه في كل شيء، ولكنّ هذه الصحوة تتعرّض الآن لخطر لا يقلّ ضرراً عن خطر التعصّب المذهبي، ويتمثّل هذا الخطر في الجماعات الإسلامية، فكلّ جماعة تعمل لصالحها، والصراعات بينها عنيفة، وبخاصة في بلاد الغرب، مما يشوّه صورة الإسلام أمام غير المؤمنين به.
والأمة إلى هذا تعاني من مشكلات جمة، فهي تعاني من حرب ضروس يشنّها عليها الأعداء بأسلحة متنوعة، من أحدثها: هذا الغزو الفكري الذي تحمله إلينا الأقمار الصناعية، وهذا التخطيط المتآمر الذي يسعى لوأد كلّ جهد إسلامي يستعلي على مباذل الحضارة المعاصرة، ويثبت كيانه ووجوده أمام الغطرسة الصليبية الحاقدة، كما يجري الآن بالنسبة للمسلمين في مختلف دول أوروبا وآسيا وأمريكا، وبخاصة في يوغسلافيا، فهناك حرب إبادة لشعب مسلم دون أن تتحرّك المنظمات الدولية تحرّكاً إيجابيّاً لمنع هذه الحرب، ودون أن تعمل الدول التي ترفع شعار الحرية والحقوق الإنسانية على وقف المذابح وانتهاك الحقوق.
وأما الصهيونية العالمية فهي تسعى لإنهاء الوجود الإسلامي كقوة فاعلة ومؤثّرة، لأنها تدرك أن هذه القوة هي وحدها التي تقف ضد أطماعها التوسّعية وأهدافها العدوانيّة في العالم، وبخاصة في العالم الإسلامي.
وفضلاً عن هذه الأخطار الخارجية تعاني الأمة من أخطار داخلية تمثّلها تلك النزاعات والخلافات المزمنة حول المشكلات الثقافية والاجتماعية والحدودية بين شعوبها، ثمّ تيارات الإلحاد الوافدة، واندفاعها الحثيث لزعزعة العقيدة، وبلبلة الأمة فكرياً حتى لا تلتقي على كلمة سواء.
وكلّ ما تعاني منه الأمة من غربة فكرية، ومشكلات متعدّدة، وتخطيط من قبل أعدائها لجعلها أمة مستهلكة لا منتجةً، ومتخلّفة لا متقدّمة، ومتخاصمة لا متحابة مردّه إلى التفرّق والتدابر الذي شغلنا عمّا يجب أن نقوم به ونسعى إليه، فأمست الطاقات والإمكانات التي منحها الله للأمة سلاحاً للتدمير لا للتعمير، وللتفريق لا للتجميع، وأصبح مثل المسلمين الذين احتفظوا بخلافاتهم وأنصتوا لداعي الفرقة كمثل شعب قامت فيه حرب أهلية طاحنة، فهي تشغل أبناءه وتستنفد قواهم، وتضيّع جهودهم، وتلهيهم عن إصلاح أحوالهم وتقويم معوجّهم، وتعين عليهم أعداءهم، وتكون سبباً دائماً في إثقال كواهلهم بما لا يتحمّلون من الأعباء، وفي إلباسهم لباس الذلّ والخوف والشقاء.
يقول الشيخ عبد المجيد سليم (ت: 1374هـ) شيخ الأزهر الأسبق(رحمه الله): "لقد عشت طول حياتي معنيّاً بأمر المسلمين، مفكّراً فيما يصلحهم وينقذهم مما تورّطوا فيه من الضعف والتخاذل والانحراف عن الصراط السويّ في العلم، فوجدت أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأمرين:
أوّلهما: أن يؤمنوا إيماناً عن بيّنة وبصيرة بأنّه لا إصلاح لهم إلاّ بهذا الدين الذي صلح به أوّلهم، وأنّهم، على حسب ما ينحرفون عن تعاليمه ومبادئه، يصابون في بلادهم وأنفسهم وسائر أحوالهم بالضرّاء وألوان الشقاء.
وثانيهما: أن ينسوا أحقادهم وميراث عداوتهم الذي أورثتهم إيّاه عوامل الضعف وعهود الذلّة والخوف، وتسلّط الأعداء، فيعودوا كما تركهم رسول الله(ص) أمة واحدةً عزيزة كريمة تشعر بعزّتها وكرامتها، ولا غرض لها إلا إعلاء كلمة الله ونشر دينه، والدفاع عن الحقّ حيثما وجدت لذلك سبيلاً".
وبعد، فإنّ الوحدة الإسلامية بالحكم الفقهي واجبة شرعاً، فليست عملاً ترغيبياً يدعى إليه، وإنّما هي أمر واجب يلزم كلّ مسلم يشهد بأنّ الله واحد أحد، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وهذا الواجب يطوّق عنق كلّ مسلم، وسيسأل عنه يوم الدين، ولهذا كان كلّ ما يؤدّي إلى الوحدة فهو واجب‘ لأنّ مالا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، والتقارب بين المذاهب يجمع الأمة على الأصول الكليّة، ولا يجعل للاختلافات الجزئية أثراً في الوحدة، فهو بهذا يكون أمراً مطلوباً شرعاً، لأنّه وسيلة إلى غاية مفروضة، والوسيلة تأخذ حكم الغاية ما دامت تنتهي إليها.
وأخيراً: إنّ مسؤولية التقارب تقع على عاتق الفقهاء، فعامة الناس تبع لهم، يسيرون وفق ما يقولون، ويأخذون بما يفتون، فإذا أدرك هؤلاء الفقهاء مسؤوليتهم وقاموا بها في إحسان سارت الأمة بخطى حثيثة نحو أخوة ووحدة إسلامية تكفل القوة في كلّ المجالات، قوة ترهب أعداء الله وأعداء الحياة، وتدرأ عن الأمة كلّ الأخطار والأضرار: ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.