من حِكَمِ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله: (الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف)[2]
اية الله الشيخ حسين الراضي
عاش العالم منذ قدم العصور على النزاع والخصام والخلاف وإلى يومنا هذا، فلا ترى إلا الحروب الطاحنة والحقد والعداوات التي راح ضحيتها جزء كبير من البشرية، ومهما كانت الأسباب عقائدية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية فإن هذه الخلافات تعدت إلى الدين الواحد والمذهب الواحد والحزب الواحد والعشيرة الواحدة والبيت الصغير الواحد فدب فيها وسرى ما سرى في غيره، وأصبح هذا البشر أعظم شراسة من الحيوانات المفترسة.
إن هذه الخلافات لم تعش البشرية إلا عليها وكأنها من لوازم وجودها، بحثت الكتب السماوية والأنبياء والرسل والأولياء في نصائحهم ومواعظهم وأعطت العلاجات لهذه المشكلة العويصة التي أقلقت العالم وأرقته طيلة مئات السنين.
إن علي بن أبي طالب عليه السلام أحد الأولياء الذين يهمهم صلاح هذا العالم واستقامته شخَّص الداء ووضع الدواء الشافي له في هذه الحكمة القصيرة التي لا تتجاوز نصف سطر.
إن المشكلة الحقيقة لهذه الخلافات المتعددة الألوان ومترامية المبررات القديمة الحديثة المتجددة في كل الأزمنة ومع مختلف الطبقات المتوحشة الجاهلة أو المتحضرة التي تدعي العلم والمعرفة هي في الحقيقة تعود إلى سبب واحد رئسي ألا وهو الظلم والجور.
والحل لهذه المشكلة كما يصورها علي بن أبي طالب عليه السلام الدوَّار بطبه الذي قد أحكم مراهمه في كلمة واحدة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ألا وهي (الإنصاف) نعم الإنصاف.. فقط وفقط، فمتى ما حلَّ الإنصاف ارتفع الخلاف وحلَّ محله الائتلاف.
إن هذه الثقافة ركز عليها علي بن أبي طالب عليه السلام وطبقها على نفسه طيلة حياته وقد أصرح عن ذلك في كلمته المشهورة (وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ)[3]
وكذلك سار على منواله الأئمة الأطهار عليهم السلام من أولاده، ساروا على منواله في تأكيدهم على هذه الثقافة وتطبيقها عليهم بالرغم من الظروف الحرجة والمفاصل الصعبة التي واجهوها.
هذه عدالة علي عليه السلام وعدالة أولاده الأئمة الهداة، الأئمة المنصفون حتى مع أعدائهم حتى مع من ظلمهم وسجنهم وقتلهم، فإنصافهم لا يتغير ولا يتبدل، هذه ثقافتهم التي أرادوها للأمة كل الأمة بلا استثناء.
علي عليه السلام دعا إلى الإنصاف للفرد والمجتمع وعمل على تحقيقه وكلفه الكثير من حياته، فهو يراه هو الحل الناجع للخلاف في الأمة الإسلامية في أول نزاعاتها في صدر الإسلام وحتى يومنا هذا.
علي عليه السلام الذي دعا إلى الائتلاف والمحبة ونبذ الخلاف يقول: (الإنصاف يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف)[4]
إننا نريد أن ننقل جملة من روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام التي تحدثوا بها عن الإنصاف وأهميته والتأكيد على الالتزام به، ونستلهم من سلوكهم ما ينير لنا الدرب حتى نكون شيعة حقيقيين لهم ومن المشايعين والمتابعين. وقبل ذلك نذكر معنى الإنصاف والعدل والفرق بينهما.
معنى الإنصاف:
أن يأخذ من الطرف الآخر مقدار ما يعطيه.
ويوجد ملازمة وتقارب بين الإنصاف والعدالة حتى أن بعض اللغويين فسر الإنصاف بالعدالة وربما ينسجم هذا التفسير مع العدالة بالمعنى الشرعي لا العقلي كما سوف يأتي.
قال الراغب الأصفهاني: (والإنصاف في المعاملة العدالة وذلك أن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا مثل ما يعطيه ولا ينيله من المضار إلا مثل ما يناله منه واستعمل النصفة في الخدمة فقيل للخادم ناصف وجمعه نصف وهو أن يعطي صاحبه ما عليه بإزاء ما يأخذ)[5]
وقال السيد علي خان: (وأنصفت الرجل: عاملته بالعدل والقسط، والاسم: النَّصَفة بفتحتين لأنك أعطيته من الحق مثل ما تستحقه لنفسك، والغرض التوقي من الميل والجور في معاملة الظالم له، بأن يوفقه تعالى لمعاملته بالإنصاف لا بما يقتضيه التشفي وتؤدي إليه الحَمِيَّة والغيظ)[6].
ومن هذا التعريف وجملة من الروايات الآتية يتبين أن الإنصاف واجب بصورة مطلقة حتى مع العدو بل يجب أن يتعامل الإنسان مع ظالمه بالعدل والإنصاف وأن لا يظلمه وإلا فقد تساويا في الظلم لذلك عرَّف السيد علي خان، العدل خلاف الجور حيث قال: (والعَدْل خلاف الجور، وأنصفته إنصافا: عاملته بالعَدْل والقسط، والاسم النَّصَفة بفتحتين)[