الإسلام قام على دعامتين : 1- كلمة التوحيد 2- ووحدة الكلمة ، وكما أن الأنبياء والأولياء والعلماء والدعاة إلى الله اهتموا بالدعامة الأولى وبذلوا الغالي والنفيس لأجلها كذلك لم يألوا جهداً في تحقيق الدعامة الثانية ولم شمل الأمة الإسلامية التي مزقتها الأطماع والأهواء والجهل .
اية الله الشيخ حسين الراضي
وفي طليعة أولئك العلماء الذين تحملوا مسؤولياتهم في لم شمل الأمة الإسلامية تحت لواء الإسلام الشيخ بهاء الملة والدين العاملي وتحمل الشيء الكثير في سبيل تحقيق هذا الهدف .
وقبل أن نتحدث عن بعض ما قام به من أساليب وأعمال في هذا الجانب علينا أن نتحدث عن نبذة من حياته والتعريف به فالكلام يقع في أمرين الأول في حياته والثاني في مساعيه وأساليبه للوحدة .
أما الأمر الأول :
نسبه
هو الشيخ محمد بن الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي الهمداني العاملي . المعروف عند العلماء بالشيخ بهاء الملة والدين العاملي وعند العموم بالشيخ البهائي .
ينتهي نسبه إلى التابعي الشهير : الحارث الهمداني أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.
ولادته
ولد في بلده الأصلي ومسقط رأسه بعلبك من جبل عامل – من لبنان .
مدحه والثناء عليه
مدحه العلماء وأثنوا عليه وذكروه بكل جميل:
1- قال العلامة الأميني :
( شيخ الإسلام ، بهاء الملة والدين ، وأُستاذ الأساتذة والمجتهدين ، وفي شهرته الطائلة ، وصيته الطائر في التضلع من العلوم ، ومكانته الراسية من الفضل والدين ، غني عن تسطير ألفاظ الثناء عليه ، وسرد جميل الإطراء له ، فقد عرفه من عرفه ، ذلك الفقيه المحقق ، والحكيم المتأله ، والعارف البارع ، والمؤلف المبدع ، والبحّاثة المكثر المجيد ، والأديب الشاعر والضليع من الفنون بأسرها ، فهو أحد نوابغ الأمة الإسلامية ، والأوحدي من عباقرتها الأماثل بطل العلم والدين الفذ ) [1].
2- قال المحبي – أحد علماء العامة - في خلاصة الأثر في ترجمته له :
( صاحب التصانيف والتحقيقات ، وهو أحق من كل حقيق بذكر أخباره ، ونشر مزاياه ، وإتحاف العالَم بفضائله وبدائه ، وكان أمة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم ، والتضلع بدقائق الفنون ، وما أظن الزمان سمح بمثله ، ولا جاد بنده ، وبالجملة فلم تتشنف الأسماع بأعجب من أخباره ) [2]
رحلاته
ساح شيخنا الكبير الشيخ البهائي – قدس سره - في مختلف البلدان ردحاً من عمره لاقتناء العلوم والآثار ، وجال كثيراً من بلدان العالم واجتمع خلال هذه الأسفار مع أساطين العلماء والمفكرين والمبدعين وأعلام الأمة من مختلف المذاهب والعباقرة وأساتذة العلوم والفنون وتعلم منهم وعلم الآخرين وهذا ما يدل على كثرة أساتذته وتنوعهم المذهبي كما علم المئات من العلماء من مختلف الطوائف .
فقد زار مكة المكرمة والمدينة المنورة لأكثر من مرة ، كما زار العتبات المقدسة في العراق ، ومشهد الإمام الرضا عليه السلام ، وهرات ، وآذربيجان ، ومصر ، والقدس ، ودمشق ، وحلب ، وغيرها . مع صعوبة المواصلات وبطئها آن ذاك .
قال المحبي : زار النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم أخذ في السياحة فساح ثلاثين سنة ، واجتمع مع كثير من أهل الفضل ، ثم عاد وقطن بأرض العجم – إلى أن قال – وصل أصفهان ، فوصل خبره إلى سلطانها شاه عباس ، فطلبه لرئاسة علمائها فوليها وعظم قدره ، وارتفع شأنه [3]
مشايخه
تنوعت معارف الشيخ البهائي كما تنوعت مشايخه فلم يقتصر على شريحة معينة منهم أو على طائفة مخصوصة أو على مذهب من المذاهب بل أخذ من الكل ما يروقه فقد ضم علم غيره إلى علمه من هؤلاء :
1- والده المقدس الشيخ حسين عبد الصمد .
2- الشيخ عبد العالي الكركي المتوفى ( 993 هـ ) ابن المحقق الشيخ علي الكركي المتوفى ( 940 هـ ) .
ومن أساتذته ومشايخه من علماء السنة :
1- الشيخ محمد بن محمد بن أبي اللطيف المقدسي الشافعي . يروي عنه الشيخ البهائي وله منه إجازة مؤرخة سنة ( 992 هـ ) نقلها صاحب البحار .
2- الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري . قال المحبي : وكان الأستاذ يبالغ في تعظيمه فقال له مرة : يا مولانا أنا درويش فقير كيف تعظمني هذا التعظيم ؟
قال شممت منك رائحة الفضل.
امتدح الأستاذ بقصيدته المشهورة التي مطلعها :
يا مصر سقياً لك من جنة قطوفها يانعة دانية
ترابها كالتبر في لطفه وماؤها كالفضة الصافية
قد أخجل المسك نسيم لها وزهرها قد أرخص الغاليه
دقيقة أصناف أوصافها ومالها في حسنها ثانية
منذ أنخت الركب في أرضها نسيت أصحابي وأحبابيه
تلامذته
غرف من نمير علمه الجم الغفير من العلماء والمحققين والمجتهدين والفلاسفة وأعلام الأمة منهم :
1- المولى صدر الدين الشيرازي الشهير بملا صدرا المتوفى 1050 هـ مجدد الفلسفة الإسلامية .
2- المولى الشيخ محمد تقي المجلسي الأول المتوفى 1070 هـ والد صاحب البحار .
3- المولى صالح المازندراني صاحب شرح أصول الكافي . المتوفى 1081 هـ
4- المولى محمد المحسن الفيض الكاشاني المتوفى 1091 هـ
وقد ذكر العلامة الأميني قرابة 97 شخصاً .
تآليفه القيمة
إن يكن الشيخ البهائي غيبه عن العيون طوارق الحدثان فقد أبقى له علمه الجمّ وآثاره القيمة حياة طيبة سعيدة خالدة مع الدهر . ذكر العلامة الأميني له 77 كتاباً ورسالة . ولأهمية كتبه وغزارة علمه تصدى عدد كبير من العلماء لشرح كتبه وتوضيحها والتعليق عليها بلغت أكثر من 145 كتاباً .
الأمر الثاني :
حول الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية . والسؤال الذي يتردد كثيرا على الألسن ما معنى الوحدة بين الأمة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية ، فهل المراد بها أن جميع المذاهب الإسلامية يجب أن تكون على مذهب واحد ؟ . وأن السني يتحول إلى شيعي ، أو أن الشيعي يتحول إلى سني فهل هذه هي الوحدة أو ماذا تعني ؟
الجواب : بكل بساطة أن مثل هذه الإشاعات والتهويلات في معنى الوحدة هي التي تثار من قبل أعداء الأمة وأنصار الفتن المذهبية ووسائل الإعلام المغرض الذين يمزقون الأمة كل ممزق . ويضعون تصورات وهمية أمام الجماهير حتى لا تتفاعل مع مثل هذه الأطروحات .
أما معنى الوحدة بكلمة مختصرة فهي :
1- أن تتعاون الأمة وتتوحد فيما اتفقت عليه وتؤمن به جميعاً كالإيمان بالله رباً وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله نبياً وبالقرآن كتاباً وبالكعبة قبلة وبالصلاة والصيام والحج والزكاة .... فريضة .
2- أن تعذر كل طائفة الطائفة الأخرى فيما اختفت فيه معها .
3- احترام كل طائفة الطائفة الأخرى والتعايش السلمي بينهم والتخلق بالأخلاق الإسلامية فيما بينهم .
الشيخ البهائي والوحدة الإسلامية
بعد أن تقلد الشيخ البهائي مشيخة الإسلام في الدولة الصفوية – وإن كانت لفترة قصيرة - وجاء على أنقاض فتنة طائفية ومذهبية حصلت بين السنة والشيعة راح ضحيتها الآلف من المسلمين حيث سفكت دماؤهم وهتكت أعراضهم وسلبت أموالهم حاول أن يلم شعث الأمة وأن يوحد صفوفها بسيرته العملية والعلمية بحسن معاشرته معهم وبذل الغالي والنفيس في ذلك ، فقد نقل السيد الجزائري أن بعض العلماء ممن سبق الشيخ البهائي كان متجاهرا باللعن للمخالفين حتى سبب ذلك إثارة الفتن بين الطوائف الإسلامية والملوك والرؤساء
قال السيد : ولما سمع الملوك من المخالفين بهذا الأمر ، ثارت الفتن بين السلاطين ، وسفكت الدماء ، وذهبت الأموال .
فكان الشيخ بهاء الملة والدين ، يلاحظ مثل هذه الأمور ، ويحسن المعاشرة مع أرباب المذاهب ، خوفا من إثارة الفتن [4]
وهذا شعور منه بأهمية الوحدة والتقارب بين المذاهب الإسلامية ونبذ التعصب الطائفي والمذهبي وسوء الظن بالآخرين وكيل التهم والسباب لهم وتكفيرهم .
أسلوبه العلمي والعملي في الوحدة
كان كثير الإحترام للطرف الذي يخالفه في الرأي والعقيدة ويحاول أن لا يستفزه ولا يجرح مشاعره حتى عند إبطال أقواله وآرائه بل يقرر رأي المخالف مع الإنصاف والعدل تقريراً يحيط بكل دقائق المطلب ويعرض أدلته كاملة وبكل أمانة ولما يسمعه السامع فكأنما هو رأيه ويدافع عنه وأن الحق معه ، ثم يقرر الرأي الذي يراه هو وبكل لباقة ويطرح أدلته دون أن يشعر الخصم أن هذا هو رأيه ثم يقارن بينهما بلطافة ودقة وكثيراً ما يترك الحكم للسامع أو الخصم في الحكم على ما هو الحق وبهذه الطريقة الحكيمة يتمكن من إقناع الخصم من طرف خفي ويؤثر فيه وإخضاعه لأريه دون التحامل عليه بل في حالات كثيرة يضمن رضا الخصم وإعجابه بتقريره حيث يتصور أنه عالمه والمدافع عنه بل ويجذبه إليه
وتحمل في سبيل هذا الأسلوب الوحدوي الكثير من المتاعب والتهجم والتحامل عليه من أبناء جلدته ومن صنفه حتى ألصقوا به التهم التي لا تليق أن تصدر من أقل طلبة العلم .
وفي مقام الدفاع عن الشيخ البهائي جاء في المقدمة التي كتبها الشيخ مجتبى العراقي لكتاب - عوالي اللئالي - لابن أبي جمهور الأحسائي ج 1 ص 11 : نقل عن السيد نعمة الله الجزائري في حديثه عن بعض علمائنا الذين يحسنون المعاشرة مع الطوائف الأخرى والدفاع عنهم ومنهم الشيخ البهائي العاملي قال :
( وأما شيخنا بهاء الملة والدين طيب الله ثراه ، فقد تكلم فيه بعضهم :
تارة بميله إلى علوم الصوفية ، وأخرى بسماعه الغناء وثالثا بحسن معاشرته لطوائف الإسلام وأهل الملل ، بل وغيرهم من الملاحدة وأهل الأقوال الباطلة ، حتى أني وردت البصرة ، وكان أعلمهم رجلا يسمى الشيخ عمر ، فتجارينا في البحث والكلام حتى انتهينا إلى أحوال الشيخ بهاء الدين ( ره ) فقال : لعلكم تزعمون أنه من الإمامية ، لا والله ، بل هو من أفضل السنة والجماعة ، وكان يتقي من سلطان العصر ، فلما سمعت منه هذا الكلام ، أطلعته على مذهب الشيخ ، و على ما تحقق به عنده أنه من الإمامية ، فتحير ذلك الرجل وشك في مذهب نفسه ، بل قيل أنه رجع عنه باطنا . .
وحول اسلوبه العلمي يواصل السيد الجزائري حديثه بقوله :
وحدثني عنه أوثق مشايخي في أصفهان أنه أتى في بعض السنين إلى السلطان الأعظم الشاه عباس الأول تغمده الله برضوانه ، جماعة من علماء الملاحدة ، طالبين المناظرة مع أهل الأديان ، فأرسلهم إلى حضرة الشيخ بهاء الدين ، فاتفق أنهم وردوا مجلسه وقت الدرس ، وعلم ما أتوا به ، فشرع في نقل مذهب الملاحدة ، وفي دلائلهم ، وفي الجواب عنها ، حتى مضى عامة النهار فقام الملاحدة ، وقبلوا الأرض بين يد يه ، وقالوا : هذا الشيخ هو عالمنا وعلى ديننا ، ونحن له تبع ، ثم لما تحققوا مذهبه بعد ذلك رجعوا إلى دين الإسلام ولو أنه طاب ثراه ناظرهم كمناظرة الخصوم ، لكان متهما عندهم ، ولما رجعوا عن باطلهم ) .
ثم يؤكد السيد الجزائري أن هذا الأسلوب في الحوار وإقناع الطرف الآخر هو من أنجع الأساليب التي استخدمها الأنبياء والأولياء عليهم السلام فيقول :
( وهذا نوع لطيف من المناظرة ، استعمله الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم في المباحثة مع المعاندين وأهل التعصب في المذاهب الباطلة ، وقد أمروا به بقوله تعالى ﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ (125) سورة النحل
ومنه ما حكاه الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ وفي سورة الكافرين (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد - إلى قوله - لكم دينكم ولي دين ) .
ومن طالع كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي قدس الله ضريحه يظهر لنا أن هده الطريقة في المناظرة هي الأصل والأنفع في استجلاب المنافقين إلى الدخول في الدين القويم . ) [5]
ويؤكد السيد الجزائري على الأسلوب الناجح الذي كان يستعمله الشيخ البهائي في وحدة الكلمة بين الأمة الإسلامية ويضرب بعض الأمثلة على ذلك بقوله :
( وحدثني أيضا ذلك الشيخ أبقاه الله تعالى – يعني أحد مشايخه الثقات - أن رجلين من أهل بلدة بهبهان ، شيعي وسني تناظرا وتباحثا في المذهب فاتفق رأيهما على أن يأتيا إلى أصفهان ويسألا ذلك الشيخ من مذهبه ، ويرجعا إليه ، فلما وردا أصفهان ، جاء الرجل الشيعي إلى حضرة الشيخ سرا عن صاحبه ، و حكى له ما جرى بينه وبين ذلك الرجل ، فلما وردا على الشيخ نهارا وأعلماه أنهما تراضيا بدينه شرع في حكاية المذهبين ، بدلائل الفريقين ، وما أجاب به علماء المذهبين ، حتى انقطع النهار ، فقاما من عنده وكل منهما يدعى أن الشيخ على مذهبه . وانه على دين الإمامية رجع إليه .
وأيضا كان رحمه الله كثير السفر إلى بلاد المخالفين وهجر عن وطنه وأقاربه وعشائره ، فكان يحسن المعاشرة معهم لذلك وأمثاله .
ولقد صدق في وصف نفسه من قصيدته الرائية :
وانى امرء لا يدرك الدهر غايتي * ولاتصل الايدي إلى قعر أسراري
مقامي بفرق الفرقدين فما الذي * يؤثره مسعاه في خفض مقداري
أعاشر أبناء الزمان بمقتضى * عقولهم كيلا يفوهوا بأفكاري
وحدثني من أثق به : أن بعض علماء هذه الفرقة المحقة ، كانوا ساكنين في مكة زادها الله شرفا وتعظيما ، فأرسلوا إلى علماء أصفهان من أهل المحاريب والمنابر ، أنكم تسبون أئمتهم ، ونحن في الحرمين الشريفين نعذب بذلك اللعن والسب [6].a