في خضم إعادة تشكيل البنى المفاهيمية في أوساطنا، وفي سياق النهوض الحضاري الذي بدأه روّاد النهضة في القرن التاسع عشر، تبقى إشكالية عالقة لم يتمكن مشروع النهضة من الافغاني إلى الإمام الخميني ومن عبده إلى الصدر وشمس الدين ومن إقبال إلى الطباطبائي والمطهري… من تجاوزه رغم جهود بالغة الأهمية بذلتها تيارات التراث نفسها من البروجردي وقبله القمّي إلى شلتوت ومن محسن الأمين إلى القرضاوي مروراً بشرف الدين وكاشف الغطاء والغزالي والخالصي و…
هذه الإشكالية هي ما تعورف على تسميته بالوحدة الاسلامية أو التقريب بين المذاهب.
حيدر حب الله(*)
وفي إطار تحليل موجز يحمل مسحةً نقدية لهذا المفهوم، يمكننا أن نسجّل مجموعة نقاط، تستوقفنا فيها مظاهر الفشل، وتحدونا إليها معاً الخطوات المتقدمة التي حصلت حتى الآن:
1ـ بدايةً ثمة ملاحظة نقدية تسجل على مفهوم الوحدة وحتى على مفهوم التقريب وتقضي هذه الملاحظة ـ في جانب مفهوم الوحدة ـ بوجود خلل معرفي وتناقض مستبطن يحمله هذا المفهوم، عندما يراد استدعاؤه في الإطار المنهجي العلمي بعيداً عن الخطاب السياسي، لأن هذا المفهوم ينكر حقيقة قائمة، إذ ان الوحدة غير قابلة للتحقق، ليس ذلك فقط بل هي غير مطلوبة، أما انها غير قابلة للتحقق فلأن منطق الصيرورة العلمي لا يقبل بوحدة على الصعيد الفكري والثقافي، فأصالة التنوّع هي الحقيقة التي يشهد بها نظام العقل البشري من جهة، وتاريخية هذا العقل من جهة أخرى، وهذا معناه أن لا مسوّغ لمفهوم الوحدة إذا اردنا تفكيك المصطلح، بل ان المفهوم غير مطلوب إذ الوحدة شلل لمنطق الصيرورة وتجميد لنشاط الاختلاف الفكري، ومن هنا كان مصطلح الوحدة مصطلحاً عاجزاً ومثالياً.
ولكن مفهوم التقريب، وهو المفهوم الاكثر قدرةً على التماهي مع الواقع المنشود، ومع الاعتراف باستمرارية الحاجة إليه، مفهوم يمكن أن نقول بأن التاريخ قد تجاوزه لكن على بعض الصعد، فبعد ظهور تيار الخطاب الاسلامي اللامذهبي، وعقب اجتياح آليات العولمة مجتمع المسلمين، أصبح من الضروري تجاوز استنزاف الذات (اخص هنا الذات المثقفة الناضجة المتعالية) في عمليات تقريب أصبحت مفروضة بحكم نظام الحياة، وانطلاقاً من ذلك ـ وفي عملية نحت مصطلح بديل ـ يقترح إنتاج مفهوم التكامل القائم على مبدأ التنوّع الذي يعبر عن واقع راسخ، وهذا المبدأ (المصطلح) قادرٌ على الوفاء بجدلية الذات والآخر، وبإمكانه أكثر من غيره تنفيس غضب تيار النكوص المستمر عبر تخفيفه من حمولات الغاء الذات التي تحتويها موضوعة الوحدة أو البعد عن الذات الذي قد يحمله مفهوم التقريب في مدلولاته المختبئة.
2ـ وإنطلاقاً من مفهوم التكامل بين المذاهب الاسلامية، يمكن الحفاظ على مبدأ الاختلاف، ليس حفظاً واقعياً نُجبرَ عليه، بل إحياءً لمظاهر النقد المتبادل القائم على عمادة السرور في الاختلاف لا الغضب نتيجته، وفي هذا الإطار يصار إلى نقد التوجّهات القائلة بضرورة إقفال ملف الخلاف المذهبي، لأن هذه التوجّهات تتعامى عن رؤية واقع إنساني حيّ أمامنا، ألا وهو نموذج الخلاف المذهبي المسيحي (الغربي) الذي لم تنفع فيه أية دعوات لاقفال الملف، رغم كل ثقافة الحداثة التي غطت الغرب، ومن ثم إذا أردنا أن نكون واقعيين فمن الأفضل الحديث عن آليات اختلاف اكثر من الحديث عن إقفاله، وحينما ننجح في إدخال الواقع تحت مظلّة آليات الاختلاف، وهي مظلّة تأتي من خارج دائرة الصراع المذهبي ـ أي من البنى الايبستمية ـ فسنقدر على تعويم مفاهيم الاولوية التي تحترم أمراً دون ان تفضّله قادرةً بذلك على الحدّ من استثارة اولئك الذين لا يقدّرون سوى هذا الامر.
3ـ وفي سياق الحديث عن الأولويات يأتي موضوع إقحام القضية المذهبية ومقولات الوحدة والتقريب و.. في الخط السياسي العام، حيث قدّم التقريبيّون خطاباً نمطياً ينادي بتهدئة الصراع المذهبي وقوفاً على مخاطر تحف بالأمة كلّها، فالصراع الاسلامي ـ الصهيوني، والصراع مع الغرب المستكبر يقضيان بضرورة جمع الشمل وتجاوز الخلافات الجزئية.
هذا الخطاب النمطي ـ على صحته التامّة ـ يواجه اشكالية منهجية في العمق، إنه خطاب مرحلي تجميدي، أي أنه يحاول ايقاف المعركة الداخلية المستنزفة للأمة نتيجة منطق أولويات، ومنطق الاولويات منطقٌ لا يحل المشاكل من الجذور،
المطلوب خطاب جذري يعيد رسم خارطة الاختلاف، وقواعده المعرفية والاخلاقية معاً، لا خطابات مرحلية أو محلية محدودة.
4ـ واستتباعاً للخطاب السياسي الطاغي على موضوع الوحدة الاسلامية، تبدو أمامنا ـ كنتيجة لهذا الخطاب ـ ظاهرة الازدواجية التي تميز بها الكثير وربما اكثر اطراف الحوار الاسلامي ـ الاسلامي، فهم في لقائهم وحدويّون يحملون خطاباً إسلاميّاً عاماً، ويتعالون عن الخلافات المذهبية… لكنهم اذا رجعوا الى أنفسهم وجماعاتهم ما يلبثون أن يعيدوا تكرار الخطاب المذهبي الموروث.
هذه الازدواجية في الخطاب، وهذه اللاشفافية في عرض الذات أمام الآخرين، ليس فقط لا تضع حلاً عميقاً لجذور المشكلة المذهبية، بل إنها تخلق مشكلات أخرى ليس أخطرها ظاهرة النفاق السياسي والاجتماعي، وأي آمالٍ تلك التي نعقدها على وحدة أو تقريب أو حتى حوار تكون هذه قواعده وتلك خلفياته؟!
5ـ وفي عمق هذه الاشكالية المعقّدة تثار قضية الهدف المرتجى من وراء فتح ملفات الوحدة والتقريب و.. بعيداً عن الموضوع السياسي الذي ألمحنا له آنفاً، وهنا قد نجد أنفسنا مضطرين لتفكيك مقولة حسّاسة اليوم، يطرحها تيار الدعوة بما يحمله هذا المصطلح من أثقال، يقال: إن هدفنا نشر التشيّع، ويقال: إن الهدف هو نشر مدرسة الصحابة… أي ان الهدف ـ بعبارة تتجاوز الإعلاء ـ هو إلغاء الآخر ولو على سبيل السلم والاستقرار، ثمة حساسية بالغة يحملها هذا الموضوع، هل الاولوية لهذا المفهوم أم أنها لما نسمّيه طبيعة الاشياء؟
هل الوحدة أو التقريب صيغة تهدف لخوض اقتحام على الآخر، أم محاولة لاعادة حالنا الاجتماعي والفكري إلى وضعه الطبيعي؟
أعتقد في تصور شخصي ان الثاني هو الصحيح، وبعد ذلك نفكر في الاول ونسعى له، دون أن يعني كلامُنا انسحاباً أو ايقافاً لمشاريع الدعوة الى (المذهب الحق)، ونظراً لحساسية هذا الأمر يجد القلم نفسه مضطرةً لمزيد من الإيضاح والإفصاح، والسؤال الأساس الذي يواجهنا هو: هل أن امتطاء تيار التقريب لصرع الآخر واقتحامه يزيل من أذهاننا شبح تصادم قادم لا محالة حينما تصل الأمور إلى النقطة الحرجة لأحد الطرفين، لا يفضي هذا التصادم سوى إلى ارتداد على مفهوم التقريب نفسه؟ ومن ثم تقديم تجربة فاشلة على هذا الصعيد؟ هذا هو التحّدي الذي يواجهه تيار التقريب والوحدة.
6ـ لكن خطوات إعادة الوضع إلى مساره الصحيح في العلاقة ما بين المذاهب الإسلامية، تواجهها في المقابل ـ خصوصاً في الفترة الأخيرة ـ موجات من المذهبية المتصاعدة المسكونة بهاجس صراع الوجود والبقاء تنذر بأزمات شديدة الصعوبة، وتبعث على القلق الشديد على مستقبل الأمّة كلها، إننا نلاحظ بوضوح مشياً تصاعدياً لهذه الظواهر في ظل اجواء شديدة الحساسية، وسعياً حثيثاً لإعادة استحضار كافة المفاهيم والمقولات والمصطلحات و… التي تعيد الصراع إلى الواجهة في محاولة لمنح حجم اكبر لقضايا لم تكن تملك هذا الحجم الكبير.
والسبب الذي قد يمكن لنا الحدس به في تحليل ظاهرة العودة هذه يمكن تلمّسه في بعض مظاهر الفشل الاجتماعي والسياسي أحياناً، وفي سلبيات تيار الحوار والتقريب نفسه، إن فشل التجربة الاجتماعية يخلق ـ طبيعةً ـ تيار نكوص لا يجد أنساً وإفراغاً لطاقاته الفاعلة سوى في الموروث والعودة الى احضان الماضي وإن الحساسية الدينية الصادقة التي تعيشها اغلب مجتمعاتنا الاسلامية يتمّ تثويرها غاضبةً بإفراطات الاصلاح والتهذيب وحرق المراحل وسرعة العَدْو وهو ما يحوج تيار النهوض الواعي إلى ممارسة عملية نقد لذاته، أي انه آن للمثقف في عالمنا الاسلامي سيما المثقف الديني، آن له وحقّ أن ينقد نفسه بدلاً من أن يبقى أسير نقد الاتجاهات الأخرى بما فيها الاتجاهات الأكثر إيغالاً في التراث والموروث.
إن الاشكالية التي تبدو واضحة ـ فيما نخمّن ـ هي في الفكروسياسية التي أخذت تتحكم في كل نشاطاتنا تقريباً، وإذا لم يكن الإنسان نافياً لصلة الفكر بالسياسة والسياسة بالفكر فإنه لا يثبت عجزاً أمام تفكيك يقوم على أساس خصائص تحكم كلا الإطارين، وإذا ما بقي تيارا الحداثة والتراث في عالمنا الإسلامي متموضعين داخل مربعات سياسية وحزبية ـ بالمعنى الواسع للحزبية في الفلسفة والعلوم ـ فإنه لن يتسنّى لنا لا إعادة انتاج أنظمة الاختلاف وأخلاقياته ولا تجاوز الأطر المرحلية التي تحكم الكثير من نشاطاتنا بحيث تبديها غير قادرة على الاتصال بقيم عليا ومبادىء حاكمة وقواعد نافذة.
واستنتاجاً من كل ذلك، تبدو الصلة ـ أمامنا ـ وثيقة بين الخلاف الشيعي الشيعي، والسنّي السنّي من جهة، والخلاف الشيعي السنّي من جهة اخرى، فأية خطوات إصلاح لاوضاعنا في الدائرة الأضيق تعني تأمين خلفية مطمئنة على صعيد الخوض في الدائرة الاوسع، وإلاّ فإن استفحال التوتر واستدامته على المسار الداخلي سوف يسمح لتيار التحفظ بعرقلة مسيرة التقريب والتكامل، كما سيدفع تيار التقريب نفسه إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء استشعاراً منه لضرورة تصفية حساب داخلي، وبذلك تبدو القضية مؤشكلة على أكثر من جانب وصعيد.
إن هذا الترابط الوثيق ما بين الوضعين يفرض على الجميع، ولو بدايةً فكّ الوصلة القائمة، وعدم اعتبار كل ساحة بمثابة تصفية حساب في الساحة الأخرى، الأمر الذي لن يخرج احداً من الفكروسياسية الحاكمة، ومن ثمّ لن ينقذنا من أوضاعنا المتردية وحالنا الهزيل.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا
(آل عمران: 103)