السؤال: هناك من يرى أنّ التقيّة عند الشيعة، وهي التي وردت فيها الكثير من الأحاديث عن أهل البيت، من قبيل: (التقية ديني ودين آبائي)، تؤسّس لمشاكل كثيرة مع الآخر، منها أزمة الثقة، بل أيضاً مع الذات نفسها، من ناحية أنها تعطي للشخصيّة الشيعية حالة من النفاق والازدواجية، ما هو رأيكم في هذا الموضوع؟ (أحمد اللواتي، مسقط).
المعنى الأوّل: تقيّة الخوف، وهي تهدف لحماية النفس من الخطر في مواضع الاضطرار، وهذا المعنى يكاد يتفق عليه المسلمون؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: (إلا من اُكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان) (النحل: 106)، ويقول: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) (آل عمران: 28)، ففي كلّ موضع يشعر الإنسان فيه بالخطر الكبير على نفسه أو أهله أو من يتعلّق به من المؤمنين، نتيجة الإفصاح عن دينه أو فكره أو ما يعتقد به، يمكنه أن يمارس التقيّة بالمقدار الذي تتطلّبه الأمور، وليس هناك استثناء في هذه القاعدة التي يدعمها العقل والمنطق العقلاني إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون هناك ضرورة عليا تتطلّب الإفصاح، بحيث يرخص دم الإنسان أو يهون وقوعه في الضرر والحرج لأجلها، وهذا ما ذكره الإمام الخميني مراراً في فتاويه المتعلّقة بقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصعيدين السياسي والاجتماعي العام، فعندما نكون بالخيار إمّا أن نضحّي أو أن يتعرّض الدين للزوال والتلاشي، ففي هذه الحال تجب التضحية؛ لأنّ القضية تتبع الأهميّة من جهة، ووجود بعض التشريعات الأساسيّة التي يُعلم من الشارع سبحانه وتعالى أنّه لا يقبل بالتهاون بها مطلقاً وفي كلّ الظروف من جهة أخرى.
الحالة الثانية: أن تستدعي التقيّة سفك دمٍ حرّمه الله تعالى، وهنا يقول مشهور الفقهاء بأنّه لا تُشرع التقية في الدم، فإنّها جعلت لحقن الدم فإذا بلغ الدم فلا تقيّة، فلا يمكنني بمبرّر التقيّة أن أقتل مسلماً أو كافراً غير محارب، على خلاف في امتدادات الحالة الثانية مطروح في كلمات الفقهاء.
وهذا المعنى الأوّل للتقيّة تشهد له النصوص الكثيرة والقواعد الشرعيّة والعقليّة والعقلائيّة أيضاً.
المعنى الثاني: ما أسمّيه التقية الأسلوبيّة أو تقية المداراة (على تفصيل بينهم في معنى تقية المداراة في اصطلاحهم)، وهذه هي التي ربما سبّبت بعض المشاكل في العلاقات بين الشيعة والسنّة، فالذي يتصوّره كثيرون هو أنّ هذه التقية تعني النفاق والكذب والازدواجية والتلاعب، بحيث لا يمكن بناء ثقة بين الشيعي وغيره مادام مفهوم التقيّة قائماً؛ لأنّ الشيعي سوف يستخدم التقية وينفي أمام الآخرين عقائد يعتقد هو بها، لا لأنّه يخشى أن يُقتل، بل لكي يجذب الآخر أو يحسّن الصورة أمامه أو لغير ذلك، وهنا تقع المشكلة في أنّ التقية تمارس عبر وسائل الإعلام فينفي الشيعي أنّ المحدّث النوري قال بتحريف القرآن الكريم لكي يفوّت الفرصة على خصمه السنّي في الانقضاض عليه.
الذي أفهمه شخصياً بمعلوماتي البسيطة وتأمّلاتي المتواضعة في النصوص هو أنّ هذه التقية ليست سوى حُسن التعامل مع الآخرين، وهي كالسياسة تعبّر عن فنّ الممكن، وليس فنّ ما ينبغي، فمثلاً عندما يريد شخص أن يدخل الآخرين في الإسلام، فليس عليه أن يذكر كلّ أحكام الإسلام دفعة واحدة، بل عليه أن يخطّط لتكون دعوته للغير على مراحل، حتى يتهيّأ الآخر لقبول الدين والعمل بالقرآن الكريم. وتدرّج الكتاب العزيز في بيان الأحكام والتشريعات خير شاهد على أنّ الإسلام نفسه طرح مضمونه بطريقة تدريجية حتى يتسنّى له النجاح في دعوته. فهذه التقية تعلّم الإنسان أن لا يكون صلفاً جافاً خشناً في بيان الدين للغير، أو دعوتهم له، بل يأخذهم برفق وتودّد ويتعامل معهم تعامله مع ابنه بالرأفة والرحمة لا بالغلظة والشدّة التي ميدانها الجهاد والدفاع. هذه هي التقية مهما سمّيناها، ولا أجد ضيراً في هذا المعنى للتقيّة؛ لأنّه ليس نفاقاً، بل هو بيان للرأي والمعتقد، غاية الأمر أنّه وضوح هادئ يقدّم صورة ناعمة، لا وضوحاً صلفاً ينفّر الناس من الدين كما بتنا نشهد اليوم مع بعض التيارات السلفية المتشدّدة عند غير مذهب مسلم. إذاً فالتقية هنا تعني أنه لا يوجد خطر على نفس الإنسان، وإنما لكي تكون هناك علاقة حسنة مع الآخرين وحسن تعاملٍ معهم، وسياسة تواصل معهم، وبناء تفاهم فكري وديني، ينبغي للإنسان أن يستخدم الوسائل الناجحة، فلا يصرّح برأيه في كلّ المواقع؛ لأنّ المجتمع قد لا يتحمّل رأيه، فيرتدّ ذلك ضرراً على المجتمع أو على الحقيقة التي يؤمن بها، والتقية بهذا المعنى أمر عقلائي إذا كانت ضمن الحدّ المعقول، ليكون الإنسان منسجماً مع مجتمعه ولا يتعامل معهم بأسلوب فظّ. وقد نجد مثلاً في بعض الأحيان أننا نتنازل عن سلوك حياتي معيّن وعن القيام به مداراةً للآخرين، لأنّ عدم ذلك قد يسبّب مشاكل في حياتنا الاجتماعيّة، وقد يسبّب صداماً. والمهم هنا هو أن لا يكون الأمر بنحو الإفراط الذي يسبّب خلق حالة من الازدواجية، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بالنفاق، وعبّرت عنه بعض الأحاديث بالإنسان ذي الوجهين أو ذي اللسانين، وذلك بأن يكون وجهي شيء وفي السرّ شيء آخر أو أن تكون شخصيّتي مختلفة في كلّ مجلس عن آخر، فهذا التصرّف مذموم في النصوص الدينية عندنا، ولا يحسن أن يكون الإنسان بهذا النوع من الشخصيّة.
أما الذي حصل شيعيّاً، فهو أنّ كثرة القهر والظلم وطول تلك الفترات الزمنية، وكون الشيعة أقليّة، أدى إلى تجذّر مفهوم الممارسة الازدواجية عندهم، وقد تمّ توارث هذه الشخصيّة جيلاً بعد جيل، بل إنّها تطوّرت ووصلت إلى حدّ مفرط رغم تغيّر كثير من الظروف الموضوعيّة، ولو أنّ الأكثريّة الإسلامية فسحت المجال لهم بحريّة التعبير عن آرائهم، لربما لم تكن الغالبية الشيعيّة كذلك، ولكن ما دام المحيط مقفلاً فستبقى هذه الشخصيّة موجودة، بل وستتطوّر وتأخذ أشكالاً مختلفة. والمطلوب الآن أن نفهم ـ أوّلاً ـ معنى التقيّة، وأنّ حدودها هي الخوف على النفس و..، وندرك ـ ثانياً ـ أنّها تمتدّ لتعبّر عن خبرة التعامل المرن مع الآخرين، لا أن يصل الإنسان إلى حدٍّ يكون فيه خائناً أو بأكثر من وجه، فلا يصح أن يدعو الإنسان إلى الوحدة الإسلاميّة وهو يكفّر الآخرين، أو أن يدعو إلى التقريب بين المذاهب وهو في الوقت عينه يرى أنّ الآخرين من المسلمين أشدّ على الدين من خطر اليهود والنصارى. فهذا مفهوم ازدواجي بامتياز. وأهل البيت ـ عليهم السلام ـ لم يكونوا كذلك، بل كانوا يحضرون مساجد الناس، ويعيشون معهم، ويتزاورون، وهم لهم قناعاتهم الخاصّة التي تختلف عن غيرهم.. نعم لم يكن الأئمّة في بعض الأحيان يبوحون بقناعاتهم نتيجة الظروف الضاغطة، فكانوا يكتفون بإخبار المقرّبين منهم فقط، وهذا أمر لا نقاش فيه، ففرق بين أن لا تقول كلّ الحقيقة وبين أن تقول الباطل. أما أن يسري هذا الأمر إلى اليوم في عصر الفضائيات والعولمة وشفافية المعلومات، فإنّ الشخصيّة المزدوجة والقلقة تضرّ العالم الشيعي نفسه أكثر من غيره.. وعليه فبعض أشكال الممارسات الخاطئة للتقية ترتدّ إلى سوء تعامل الأكثرية مع الشيعة عبر التاريخ من جهة، وإلى بعض نماذج الإفراط والتعلّل من قبل بعض الشيعة في ممارسة ذلك.
وقد تقول لي: كيف نجمع بين ما ذكرتموه من المعنى الأوّل للتقيّة، وما فعله أنصار الأنبياء عبر التاريخ من الصمود والتمنّع إلى حدّ الموت، بل إنّ بعضهم كان يدفن في التراب ويقطع رأسه بالمناشير، ولم يكونوا يتفوّهون بكلمات تدلّ على الاعتراف أو الخنوع؟
والجواب هو ما أشرنا إليه بداية الكلام، ففي بعض الأحيان قد يصبح التفوّه بالكلمات الباطلة حراماً، فلو فرضنا أنّ قائداً للمقاومة ضدّ المحتل قد اعتُقل، وطُلب منه الاعتراف، فإنه في هذه الحال يصبح الاعتراف محرّماً شرعاً عليه؛ لأنّ ضرره لن يكون محصوراً بالقائد نفسه، بل يتعدّى إلى جميع أجهزة المقاومة وقواتها، ومن ثمّ فإنّ قاعدة التزاحم بين المهم والأهم تجري هنا، وهذا ما فعله أنصار الأنبياء في تلك الحقب؛ لأنّ المواجهة كانت حاجةً للنهوض دون المساومة.
حيدر حب الله